وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ 17/2/1443هـ الحمدُ لله الوليِّ الحميدِ، وَعَدَ الشَّاكرينَ مِنْ عِبَادِهِ بِالْمَزيدِ، أَشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ شَهادَةَ إخْلاصٍ وَتَوحِيدٍ، وأَشهدُ أنَّ سَيِّدَنَا وَنَبيَّنا مُحَمَّدًا عبدُ اللهِ وَرسُولُهُ خَيرُ العَبِيدِ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَهْلِ القَولِ السَّدِيدِ وَالنَّهْجِ الرَّشِيدِ، والتَّابِعينَ لَهُمْ بِإحْسَانٍ إلى يَومِ الْمَزِيدِ. أَمَّا بَعْدُ: فًأُوصِيكُم عِبَادَ اللهِ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ وَطَاعَتِهِ، فَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ إلى دَارِ كَرَامَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ. الَّلهُمَّ ربَّنا لَكَ الْحَمدُ بِالإسْلامِ وَبِالقُرْآنِ، وَلَكَ الْحَمْدُ بِالأَهْلِ وِالْمَالِ وَالْمُعَافَاةِ. كَبَتَّ عَدُوَّنا، وَبَسَطْتَ رِزْقَنَا، وَأَظْهَرْتَ أَمْنَنَا، وَجَمَعْتَ فُرْقَتَنَا، وَمِن كُلِّ مَا سَأَلْنَاكَ رَبَّنَا أَعْطَيتَنَا. لَكَ الْحَمْدُ حَتَّى تَرْضَى، وَلَكَ الحمدُ إذا رَضِيتَ، وَلَكَ الْحَمْدُ بَعْدَ الرِّضَى. مَعَاشِرَ الْمُسلِمِينَ: خُلُقٌ عَظِيمٌ، وَمَقَامُ عِبَادَةٍ كَرِيمِ، أَمَرَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ، وَأَثْنَى على أَهلِهِ، وَوَصَفَ بِهِ خَوَاصَّ خَلْقِهِ، وَوَعَدَهُمْ بِأَحْسَنِ جَزَائِهِ، اشْتَقَّ لِهَؤلاءِ اسْمًا مِنْ أَسْمَائِهِ، وَهُم القَلِيلُونَ مِنْ عِبَادِهِ، حَقَّا: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ). جَعَلَنا اللهُ وَإيَّكُمْ مِنْ الشَّاكِرِينَ. عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ عَزَّ شَأْنُهُ: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ). وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ:(وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُون (. أَوَّلُ أَنْبِياءِ اللهِ وَصَفَهُ رَبُّهُ: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا). وَخَلِيلُهُ عَليِهِ السَّلامُ: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). وَنَبِيُّ اللهِ سُلَيمَانُ عَليهِ السَّلامُ لَمَّا رَأى نِعَمَ اللهِ عَليهِ قَالَ: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ). أَمَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ خَيرَ الشَّاكِرينَ كَمَا قَال الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا». عِبَادَ اللهِ: الشُّكْرُ اعتِرَافٌ مِن العَبْدِ بِمنَّةِ اللهِ عليهِ مِن خَيرَي الدُّنيا وَالآخِرَةِ في النَّفْسِ، بِالأَهْلِ وِالِمَالِ وَالعَمَلِ، وَفي شَأْنِ العَبْدِ كُلِّهِ. وَالشُّكْرُ دَلِيلٌ على أنَّ العبدَ رَاضٍ عَنْ رَبِّه. الشُّكْرُ يَا رَعَاكُمُ اللهُ: حَيَاةٌ لِلقَلْبِ، وَسَبَبٌ لِمَزِيدِ فَضْلِهِ، وَحَارِسٌ لِنِعَمِهِ، وَهُوَ دَليلٌ على صَفَاءِ النَّفْسِ، وَطَهَارَةِ القِلْبِ، وَكَمَالِ العَقْلِ. حَقًّا إنَّ رِضَا اللهِ فِي شُكْرِهِ كَمَا قَالَ رَبُّنَا جَلَّ وَعَلا: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أَيْ: يُحِبُّهُ مِنْكُمْ وَيَزِدْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ. كَمَا أَنَّهُ جَعَلَ الشُّكْرَ مِنْ أَسْبَابِ الأَمْنِ مِن عَذَابِ اللهِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، يَقُولُ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) أَيُّها المُؤمِنُونَ: شُكْرُ اللهِ يَقُومُ عَلى أَرْكَانٍ ثَلاثَةٍ: أَوَّلُها: الاعْتِرافُ بِالنِّعَمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَعَ مَحَبَّةِ الْمُنعِمِ سُبْحَانَهُ، جَازِمًا بَأنَّهُ هُو مُسْدِي النِّعَمِ وَدَافِعُ النِّقَمِ، فَأَهْلُ الجَهْلِ والضَّلالِ كَانُوا يَنْسِبُونَ الخَيرَاتِ لِغَيرِ اللهِ! فَكَانَ ذَلِكَ كُفْرًا مِنْهُمْ، فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ، قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا" رَوَاهُ مُسلِمٌ. والرُّكْنُ الثَّانِي لِلشُّكْرِ: التَّحدُّثُ بِالنِّعَمِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَعَ الثَّنَاءِ عَلى اللهِ بِمَا أَوْلنَا مِنْ نِعَمٍ، وَدَفَعَ عَنَّا مِنْ بَلايَا ونِقَمٍ, وَلَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَعَظَمَ مَدْرَسَةِ لَنَا فِي الشُّكْرِ, فَقَدْ كَانَ يُحيِ وَقْتَهُ شُكْرًا وَثَنَاءً عَلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ, قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " فَقَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلَمَسْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ وَقَدَمَاهُ مَنْصُوبَتَانِ وَهُوَ يَقُولُ: أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ؛ وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ؛ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ" رَوَاهُ مُسلِمٌ. حَقًّا: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ). فَالَّلهُمَّ أَعِنَّا جَمِيعًا على ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَعَلى حُسْنِ عِبَادَتِكَ، بَاركَ اللهُ لنا في القُرآنِ العَظِيمِ، وَبِهَدْيِ سَيِّدِ المُرسَلِينَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي وَلَكُمْ ولِسَائِرِ الْمُسلمينَ من كلِّ ذنبٍّ فَاستَغفِرُوهُ، إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحيمُ. الخطبة الثانية الحمدُ لله على ما أَنعَمَ وَأولى، أَشهْدُ أَن لا إله إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ العَليُّ الأعلى، وَأشهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا وَحبِينَا مُحَمَّدًا عبدُاللهِ وَرَسُولُهُ خَيرُ نَبِيٍّ وَأزْكَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ وَعلى آلِهِ وَأصْحَابِهِ وَمَنْ بِهُدَاهُمُ اهْتَدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا يَا أُولي الألبَابِ وَاشْكُرُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ مَعْنى الشُّكْرِ: أَنَّهُ اعْتِرَافُ القَلْبِ بِمِنَّةِ اللهِ تَعَالى، وَتَلَقِّيهَا افْتِقَارًا إليَهَا، وَصَرْفِهِا في طَاعَةِ اللهِ تَعَالى، وَصَونِهَا عَن صَرْفِها في الْمَعْصِيَةِ. أَيُّها المُؤمِنُونَ: أَمَّا النَّوعُ الثَّالِثُ مِنْ أَرْكَانِ الشُّكْرِ: فَهُوَ تَسْخِيرُ تِلْكَ النِّعَمِ في طَاعَةِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ. وَهذهِ ثَمَرَةُ الشُّكْرِ وَجَوهَرُهُ. كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى لِدَاوُدَ عَليهِ السَّلامُ وَلأهْلهِ وَأَولادِهِ:(اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا). فَالْمِنَّةُ بِالنِّعَمِ علَى الْجَمِيعِ، وَمَنْفَعَةُ الشُّكْرِ عَائِدَةٌ لَهُم كُلِّهُمْ. وَهُنَا قَالَ اللهُ تَعَالى:(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) فَأَكْثَرُ النَّاسِ لَمْ يَشْكُرُوا اللهَ حَقِيقَةً عَلَى مَا أَولاهُمْ مِنْ نِعَمِهِ، وَدَفَعَ عَنْهُم مِنْ النِّقَمِ. عِبَادَ اللهِ: شُكْرُ اللهِ وَاجِبٌ في جَمِيعِ الأَحْوَال: في الصِّحَةِ وَالسَّقَمِ، وَالشَّبَابِ وِالهَرَمِ، وَالفَقْرِ وَالغِنَى، وَالفَرَاغِ وَالشُّغْلِ، وَالسَّرَّاءِ والضرَّاءِ، وَاليقَظَة والْمَنَامِ، وَالسَّفَرِ والإقَامَةِ، والخَلْوَةِ وَالاخْتِلاطِ، قِيَامًا وَقُعُودًا وعلى جُنُوبِكُمْ. أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» حَسَّنَهُ الألبَانيُ رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " مَنْ لَمْ يَعْرِف نِعَمَ اللهِ عَلَيهِ إلَّا في مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ فَقَدْ قَلَّ عِلْمُه ". إي واللهِ لَقَدْ قَالَ المَولى جَلَّ وَعَلا: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). أَيُّها الأخُ الْمُؤمِنُ: اسْتَمِعْ لِوَصِيِّةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَسَلَّمَ لَكَ فَقَدْ قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ، أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ، فَقَدْ أَدَّى شُكْرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ» حَسَّنَهُ ابنُ بازٍ رَحِمَهُ اللهُ. فَمَا أَرْحَمَكَ يَا اللهُ وَأَحْلَمَكَ عَلى مَنْ كَفَرَكَ وَمَا شَكَركَ! وَمَا أَكْرَمَكَ يَا اللهُ وَزَادَكَ عَلى مَنْ شَكَرَكَ وَمَا كَفَرَكَ! فَالَّلهُمَّ اجْعَلْنَا لَكَ مِن الشَّاكِرينَ الذَّاكِرينَ يَارَبَّ العَالَمِينَ. الَّلهُمَّ إنَّا نعوذُ برضاكَ من سخطِكَ وبمعافاتِكَ من عقوبتكَ وبكَ منكَ لا نحصي ثناءً عليكَ. اللهم أصلح شباب الإسلام والمسلمين وخذ بنواصيهم للبِرِّ والتقوى ووفقهم للعملِ الذي ترضى. اللهمَّ اجعلهم هداة مهتدين، اللهمَّ حبِّب إليهم الإيمانَ وزَيِّنْهُ في قلوبِهم وكرِّه إليهم الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ واجعلهم من الرَّاشِدينَ. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ. اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداءَ الدِّين، واجعل بَلدَنا آمنًا مُطمئِنًّا وسائرَ بلادِ المسلمين, اللهمَّ آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاةَ أمرنا، وفقهم لِما فيه صَلاحُ الإسلام والمسلمينَ. اللهمَّ انصُر جُنُودَنَا واحفظ حُدُودَنَا واكفِنا شَرَّ الفَواحِشِ والفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، واغْفر لَنا وَلِوالِدِينا والمُسلِمِينَ أجمَعِينَ ياربَّ العالمينَ. (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).