نُزُولُ الوَحْيِّ دُرُوسٌ وَعِبَرٌ (1) 9/6/1442هـ الحمدُ اللهِ العَليِّ الأَعْلَى، أوْحَى إلى عَبدِهِ مَا أَوحَى، أَشهد ألَّا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ؛ له الأسمَاءُ الحُسنى، والصِّفَاتُ العُلَى، وَأَشهَدُ أنَّ مُحَمَّدَاً عبدُ اللِه وَرَسُولُهُ الْمُجْتَبَى؛ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ وَعلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأتْبَاعِهِ وَمَنْ بِهُدَهُمُ اهْتَدَى. أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَأطِيعُوهُ، واحْمَدُوهُ على الكِتَابِ المُبينِ وَلا تَكْفُرُوهُ. أيُّها المُؤمِنُونَ: حديثُنا عَنْ نَبَأٍ عَظيمٍ! بَدَأَ مَعَهُ نُورُ النُّبوَّةِ، حِيَنَ نَزَلَ جِبْرِيلُ الأَمِينُ؛ في يومٍ مَوْعودٍ! حَدَثٌ هزَّ أَكْرَمَ مَخْلُوقٍ، وغيَّرَ تَأريخَ البَشَرِيَّةِ؛ فَبَعْدَ أنْ بَلَغَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ عَامًا، هيَّأ لَهُ أَسْبَابًا لِيَتَحَمَّلَ قَلْبُهُ نُزُولَ جِبريلَ عليه السَّلامُ بِهَيئَتِهِ الضَّخْمَةِ العَظِيمَةِ! حدَّثَتْ أمُّنا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فَقَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ؛ فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ! وَمِنْهَا أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسيرُ في شِعَابِ مَكَّةَ فَإذَا بِالأَحْجَارِ الصَّمَّاءِ تُسَلِّمُ عليه بِصَوتٍ مَسْمُوعٍ! يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:"إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ". عِبَادَ اللهِ: أَمَّا التَّهيِئَةُ الأَقْوى فَقَدْ كَانَ تَعَبُّدَاً وانْقِطَاعَاً في غَارٍ مُظْلِمٍ، لا تَتَجَاوَزُ مَساحتُهُ ثَلاثَةُ أَمْتَارٍ طُولاً وَنِصْفُها عَرْضَاً! كَمَا قَالَتْ أُمُّنَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ. اللهُ أكبرُ: لقد كان يَخلُو فِي الغَارِ حَيثُ التَّفَكُّرُ، وَاسْتِعْدَادٌ لِتَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الدَّعوةِ! أيُّها المُؤمنُونَ: وَفِي لَيلَةٍ مُبَارَكَةٍ حَانَتْ سَاعَةُ النُّبُوَّةِ الأُولى، وَحَصَلَ لِقَاءٌ هُوَ الأَهَمُّ فِي تَأرِيخِ الدُّنْيَا؛ وَصَدقَ المَولى: (طه *مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى* إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى* تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى). اللهُ أكبرُ: لَقَد التَقى أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ بِأَمِينِ الأَرْضِ؛ وَصَدَقُ اللهُ العَظِيمُ: (وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ). قَالَ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: ما كُنْتَ تَظُنُّ يا مُحَمَّدُ أنَّ الوحيَ يَنزِلُ عليكَ، وَإنَّمَا نَزَلَ عليكَ مِن رحمَةِ اللهِ بِكَ وبِالعِبَادِ بِسَبَبِكَ. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَكانَ نُزُولُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِقَولِهِ تَعَالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ). أمَّا كَيْفَ كَانَ أوَّلُ لقَاءٍ فَخُذُوهُ مِن فَمِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ. أَقَولُ مَا سمَعتُمْ وأستغفِرُ الله لي وَلَكُمْ وَلِلمُسلمينَ من كُلِّ ذنبٍّ فاستَغفِرُوهُ إنَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ. الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: الحَمْدُ للهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَشْهَدُ أَلَّاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّين.ِ أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ.أيُّها المُسلِمُونَ: حَدَّثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:"لَقَدْ جَاءني المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ فَقَلت: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي. يَعْنِي تَرَكَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ:مَا أَنَا بِقَارِئٍ.أَيْ لا أُحسِنُ القِرَاءَةَ.لَقَدْ ضَمَّهُ وَأتْعَبَهُ لِيَعرِفَ هُوَ وَأتبَاعُهُ قَدْرَ الوَحْيَ وَعَظَمَتَهُ، وَأَنَّ تَبْلِيغَهُ يَحْتَاجُ لِمَجهُودٍ كَبيرٍ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ:فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ:(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ). فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ إِلَى بَيْتِهِ، فَجَعَلَ لَا يمرُّ عَلَى شَجَرٍ وَلَا حَجَرٍ إِلَّا سلَّم عَلَيْهِ، فَرَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ مُوقِنًا أَنَّهُ قَدْ رَأَى أَمْرَاً، فَدَخَلَ عَلَى زَوجتِهِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ لَهَا: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلتْهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لها: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، قَالَتْ: كَلَّا وَاللَّهِ! مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ ثُمَّ اسْتَعْلَنَ لَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّة،َ فَأَجْلَسَهُ عَلَى مَجْلِسٍ كَرِيمٍ مُعْجِبٍ، عَلَى بِسَاطٍ كَهَيْئَةِ الدُّرْنُوكِ"؛ وهو نَوعُ ثِيَابٍ وَبُسُطٍ فِيهِ الْيَاقُوتُ وَاللُّؤْلُؤُ، فبشَّرَه بِرِسَالَةِ اللِه لَهُ! "فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ ابْنَ عَمِّها، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَتْ لَهُ:اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ:هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى -وَالنَّامُوسُ هُوَ صَاحِبُ السِّرِّ-؛ لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا.يا مُؤمِنُونَ لَمْ تَنْتَهي قِصَّتُنا بَلْ فِيها دُرُوسٌ وعِبَرٌ، وَأَحْدَاثٌ وَسِيرٌ. نَسألُ اللهَ أنْ يَرزُقَنَا عِلمًا نَافِعًا، وَعَمَلا صَّالِحًا, الَّلهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم وَبَارِكْ عَلى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأصْحَابِهِ أجْمعِينَ الَّلهُمَّ ارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً قَولا وَعَمَلاً وَاعْتِقَادَاً. الَّلهُمَّ إنَّا نسأَلُكَ إيماناً صادقاً ولِسانَاً ذَاكِرَا وعَمَلا صَالِحَاً مُتقَبَّلاً .الَّلهُمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ودَمِّر أعداء الدِّينِ، وانصر إخواننا المجاهدينَ في سبيلكَ في كلِّ مكانٍ، الَّلهُمَّ انصُرْ جُنُودَنا واحفظ حُدُودَنا. ووفَّقْ ولاةَ أُمُورِنا، واغفر لنا ولوالدِينا وللمسلمينَ أجمعينَ .رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ. اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.