خطبة الجمعة 29-01-1431هـ بعنوان الْخُسُوفُ آياتٌ ومَواعظُ
الحمدُ لله أوجدَ الكائناتِ فأبدَعَها صُنعاً، وأحكَمها خَلقاً، نحمدُه سبحانه ونشكره، لم يزلْ للشُّكرِ مُستحِقاً، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تَعَبُّداً له ورِقاً، ونشهدُ أنَّ نبيَّنَا محمداً عبدُ الله ورسولُه، أبلغُ الخلقِ بياناً وأصدَقُهم نُصْحَاً،صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه،وعلى آله وأصحابِه الْمُقدَّمين فَضْلاً وسَبْقاً،والتَّابعينَ ومن تَبعَهم بإحسانٍ وإيمانٍ، ومن نصرَ دينَ الله حقاً وصِدقاً ، أمَّا بعد:
أيُّها الناسُ: اتَّقُوا اللهَ تعالى وتَفَكَّروا في خَلْقِ السَّماواتِ والأرضِ ففيهما آياتٌ لقومٍ يعقلونَ، سَبْعٌ شِدَادٌ رَفَعَها اللهُ بقوتِه وأمسكَها بقدرتِه ورحمتِه أنْ تقعَ على العباد ؟ تفكَّرُوا كيفَ أحَكَمَ اللهُ بناءَها؟فمالها من فروجٍ ولا فُطُورٍ فلا عيبَ فيها ولا نُقْصَانٍ،وكيفَ جعلَ فيها سِراجاً وقمراً مُنيراً؟يسيرانِ بإذنِ الله في فلكٍ وضعهُ اللهُ لا تَنْقُصَانِ عن سَيْرِهِمَا ولا تزيدانِ ولا يرتفعانِ عنه ولا يَحيدانِ ! فسبحانَ من سيَّرهما بقدرتِه ورتَّبَ نظامَهما بحكمتِه وهو القويُّ العزيزُ .
أيُّها المسلمون:ومِن رحمة الله بالعباد أنْ يُرسلَ من حينٍ إلى آخرَ بعضَ الآياتِ الدَّالةِ على عظمتِه وربوبيَّته وجلالِهِ، ليثوبَ الناسُ إلى ربِّهم بعد طولِ فُتُورٍ،ولِيَخَافهُ الْمُذنِبُونَ بعدَ غفلَةٍ وغُرورٍ، وليُقْلع أهلُ الشرِّ والفسادِ عن الآثامِ و الشُّرورِ. قال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا وقال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وقال تعالى: وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ عباد الله: لقد أرانا الله تعالى آيةَ خُسوفِ القمرِ قبل ليلتينِ,وكانت ظُلمَةً شديدةً استمرت ثلاثَ ساعاتٍ تقريباً فَتَذَكَّرْنا في ظُلمةِ الْخُسُوفِ ظُلمَة القَبرِ. وكذلك أرشدَ النَّبِيُّ في خُطبةِ الكُسُوف أن نستعيذَ بالله من عذابِ القبرِ،فنسألُ اللهَ تعالى أن يُنَوِّرَ قلوبَنَا بالتَّقوى والإيمانِ وقبُورنا بنورٍ من الرَّحيمِ الرَّحمنِ. واعلموا رحِمَكُمُ اللهُ أنَّ الآياتِ للصالحينَ رحمةٌ وبرهانٌ، يزدادونَ بها إيمانًا ويقينًا، وتملؤ قلوبَهم خوفاً من عقابِ اللهِ, وطمعًا في رحمته ، والآياتُ لأهلِ الغفلةِ إقامةٌ للحجَّة وقَطْعٌ للمَحَجَّة.
سمِعَ ابنُ مَسْعُودِ رضي الله عنه بِخَسْفٍ، فقال: ( كنَّا أصحابَ محمَّدٍ نعدُّ الآياتِ بَرَكَةً، وأنتم تَعُدُّونَها تَخوِيفًا)
وحقيقةُ الاتعاظ:يكونُ بالتَّمسُكِ بدينِ اللهِ تعالى القائلِ: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ولَمَّا سُئِلَ النَّبِيُّ : متى السَّاعةُ؟ قال: للسَّائِلِ: (وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لها ).
ذلك أنَّ الله تعالى أخبرنا أنَّ الدَّنيا فانيةٌ، وأنَّ الساعةَ آتيةٌ، فهل من مُدَّكر؟! أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ فما بالُ أقوامٍ قُلُوبُهم لا تَخشع؟! وإلى الصلاة لا تفزع؟!
فنبيُّ اللهِ وهو أخشى النَّاسِِ وأتقاهم ! يَفْزَعُ عند آيةِ الكُسُوفِ، ويَخرجُ إلى المسجد يَجُرُّ ردائَه من شدَّة الفزعِ والخوفِ. ثم يُنَادَى الصلاةُ جامعة ، فَيَجْتَمِعُ النَّاسُ وَيُصَلِّي بهمُ النبيُّ بهم صلاةً غيرَ مَعْهُودَةٍ لهم! صلَّى ركعتينِ وفي كلِّ ركعةٍ رُكُوعَانِ وسُجودانِِ، صلاةً طويلةً حتى جعلَ أصحابَه يَخِرُّون من طول القيام والرُّكوعِ والسُّجود ؟ ثمَّ سلَّم وقد انجلتِ الشَّمسُ، ثُمَّ خطبَ ووعَظََ وقالَ: ( إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ الله لا يَنْخَسِفَانِ لِمَوتِ أحدٍ ولا لِحَيَاتِهِ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصَّلاةِ، فافزعوا إلى ذِكْرِ اللهِ , ودُعَائِهِ واستغْفَارِهِ, فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا وصلُّوا وتصدَّقوا )، ثمَّ قال: ( يا أمَّةََ محمدٍ والله ما من أحدٍ أغيرُ من الله أنْ يزنيَ عبدُه أو تزنيَ أمتُه، يا أمَّة محمدٍ والله لو تعلمون ما أعلمُ لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ما من شيء تُوعَدُونََه إلا قد رأيتُه في صلاتي هذه، وأوُحيَ إليَّ أنَّكم تُفتنونَ في قبورِكم قريبا أو مثلَ فتنةِ الدَّجالِ، فَتَعَوَّذُوا بالله من عذابِ القبر ، قالوا: يا رسولَ الله، رأيناك تناولتَ شيئاً في مَقَامِكَ، ثم رأيناك كَعكعتَ! فقال : ( إنِّي رأيتُ الجنَّة فتناولتُ عُنقودا، ولو أصبتُه لأكلتم منه ما بقيتِ الدُّنيا، وأُريتُ النَّارَ فلم أر منظرا كاليومِ قطُ أفظعَ منها ، ورأيتُ أكثرَ أهلِها النساءُ) قالوا: بم يا رسولَ الله؟ قال: ( بِكُفْرِهِنَّ ) قيل: يكفرنَ بالله؟! قال : (يَكْفُرْنَ العَشِيْرَ، ويكفرنَ الإحسانَ، لو أحسنتَ إلى إحداهِنَّ الدَّهرَ كلَّه ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيتُ منك خيرا قط ).ولقد جيءَ بالنَّار يَحطِمُ بعضُها بعضا وذلك حين رأيتموني تأخَّرتُ مخافةَ أنْ يُصيبني من لفحِها، حتى رأيتُ فيها عمرو بنَ لحيٍّ يجر أقصابَه أي أمعاءَه في النَّار ورأيتُ صاحبةَ الهرةِ التي ربطتها فلم تُطعِمْها ولم تدعْها تأكلُ من خشاشِ الأرض حتى ماتت جوعا ).أعوذ بالله من الشيطانِ الرجيم وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيِّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنِّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله الذي خشعت له القلوبُ وخضعت، ودانت له النفوسُ ورقَّت، وعنت له الوجوه وذلَّت، نحمدُه سبحانه حمدا كثيرا طيِّبا مُباركاً فيه، ونشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له شهادةَ من يخافُه ويتَّقِيهِ، ونشهدُ أنَّ محمدا عبدالله ورسولُه بَعَثَهُ اللهُ رحمةً وأمناً للعالمين، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله الطيبينَ, وأصحابِه الغرِّ الميامين،والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدِّين. أمَّا بعدُ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا عباد الله: آيةُ الخسوفِ إنذارٌ لنا وتخويفٌ؛ لكي نتوبَ إلى الله ونرجعَ عمَّا نحن فيه من معصيةٍ وتقصيرٍ. وهي أقوى باعثٍ للمحاسبةِ والتَّصحيحِ وإقامةِ فرائضِ اللهِ واجتنابِ نَواهِيهِ. وكم هو مُؤسفٌ أن يحصلَ الْخُسُوفُ ونحنُ في غفلةٍ معرضونَ وفي مَلَذَّاتِنَا غارقون؟! كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ نسألُ اللهَ العفوَ والعافيةَ . أيُّها المسلمونَ: إنَّ لِنُقصَانِ ضَوءِ القَمَرِ ارتباطاً مُباشرا بأعمالِ بني آدمَ. فشؤمُ المعصيةِ يكونُ على الأنفُسِ والأهلِ والمجتمعات والدُّول، وحتى على الكونِ كذلكَ. فَشُؤمُهَا على العبدِ بأن يَهُونَ العَبْدُ على رَبِّهِ، وتَرتَفِعَ مَهَابَتُهُ مِنْ قُلُوبِ خَلْقِهِ،قال تعالى: وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ قال الحسنُ البصريُّ رحمه الله: "هانوا عليه فَعَصَوهُ، ولو عَزُّوا عليه لَعَصَمَهُم". حقَّاً ما أهونَ الخلقَ على الخالقِ إذا هم أضاعوا أمرَهُ، ؟! وأمَّا شؤمُ الذُّنُوبِ على الدُّول والمجتمعاتِ فَأَمرٌ عَظِيمٌ! وَخَطَرٌ جَسِيمٌ! قالَ تَعَالَى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ .فبالذنوبِ حصلَ لهم النَّقصُ والبلاءُ وتوالت عليهم الْمِحَنُ، وتَدَاعَت عليهمُ الفِتَنُ، وارتَفَعَتِ الأَسْعَارُ،وحصلَ النَّقْصُ في الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ، وصدَقَ اللهُ : إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ . إنَّها الْمعَاصِي أَجَارَنا جميعاً اللهُ مِنْها :ما ظَهَرت في دِيارٍ إلا أَهلَكَتْها، ولا تَمَكَّنَت مِن قُلوبِ إلا أَعمَتْهَا، ولا فَشَت في دُولٍ إلا أَسقَطَتْهَا.لقد حذَّرَ رسولُ اللهِ في خُطبةِ الكسوفِ من الزِّنا ! وقد فَشَا في وقتِنا الحاضرِ، وأُعلِنَ الرِّبَا، وشُربَتِ الْخُمُورُ ، وأُدمِنَتِ الْمُخَدِّراتُ، وَكَثُرَ أكلُ الْحَرامِ وتَنَوَّعَتِ الْحِيَلُ، وارتفعت أصواتُ الْمَعَازِفِ , وفَشَت رَذَائِلُ , ثُمَّ إنَّكَ لَتَسْمَعُ عن شَهادَاتٍ بَاطِلَةٍ وأَيْمَانٍ فَاجِرَةٍ وخُصُومَاتِ ظَالِمَةٍ وَوِشاياتٍ كاذِبةٍ، وبعدَ هذا كُلِّهِ نَستَغْرِبُ أنْ يَخْسِفَ القَمَرُ أو تَنْكَسِفَ الشَّمسُ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أيُّها المسلمونَ: إنَّه لا تَفْسُدُ الأحوالُ , إلاَّ إذا ضُيِّعَ الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن الْمُنْكَرِ، فهوَ وِثَاقُ الدِّينِ، و به تُحفظُ حُرُماتُ الْمسلمينَ، وتُهتَكُ أَسْتَارُ الْمُجرِمِينَ. وَيَعْلُو الْحَقُّ والإيمانُ، ويَنْدَحِرُ البَاطِلُ والعصيانُ، قال : ( وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَاباً مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُوْنَهُ فَلا يُسْتَجَابُ لَكُمْ)
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . اللهم طهِّر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة ياربَّ العالمين . اللهم أدم علينا نعمة الأمن والإيمان ووفقنا لما تحبُّ وترضى يا رحمان . اللهم وفِّق وُلاةَ أمورِنَا لِمَا تحبُّ وترضى وأعنهم على البرِّ والتقوى واجعلهم هداةً مهتدين غير ضالين ولا مُضِلِّينَ.اللهم رزقهم البطانة الصالحة ياربَّ العالمين
رَبَّنَا آ ربنا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
عباد الله أذكروا الله العظيمَ يذكركم واشكروه على عمومِ نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلمُ ما تصنعون .
0
0
2.1K
05-24-1433 12:40 صباحًا