خطبة الجمعة 06-10-1433هـ بعنوان صَدِّيقُ الأمَّةِ رضي الله عنه
الحمدُ لله عزَّ سلطانُ ربِّنا،وعمَّ فضلَه وإحسانَه، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وَعَدَ المؤمنين الكرامةِ، وتوعَّد الظَّالمين بالحسرةِ والنَّدامةِ، ونشهدُ أنَّ نبيِّنَا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى جميع الآل والأصحاب, وتابِعيهم إلى يومِ المآبِ أمَّا بعد: عبادَ اللهِ: اتَّقوا اللهَ ربَّكم وأصلحوا قلوبَكم وأعمالَكم تَصلُح لكم دنياكُم وآخِرَتَكُم. يامؤمنونَ: أتُريدونَ أنْ تسمعوا عن العظمةِ في ذروتِها, والإيمانِ في شموخِهِ؟ وهل سمعتم عن البُطولةِ في أسمى مَعانِيها؟ والإنفاقِ في سبيلِ الله بأحلى صُورِهِ؟ إنَّها هنا في تأريخنا المجيدِ! فَدَعُونِي أشنِّفُ آذانَكم بسيرة رجلٍ عظيمِ القَدرِ، رفيعِ المنزلةِ والأجرِ، اسمه عبدُ الله، عبد ربَّه حقَّ عبادته، وجاهد فيه حقَّ جهاده، أنفقَ مالَهُ كُلَّهُ في سبيل الله، نصرَ رسولَه وصدَّقه وآمن به إذْ كذَّبَ به النَّاسُ، كانَ نَبيلاً شريفَاً تَاجراً نسَّابَاً, وكان ذا رأيٍ وَمَشُورَة، وكان في جاهليته لا يشربُ الخمر ولا يأكلُ الربا، وذلك لِما فُطِر عليه من الخير والكمال، حقَّاً لقد حازَ الشَّرفَ كلَّه، وتملَّك السيادةَ من أطرافها، فلأجلِ ذلكَ اتَّخذه النَّبيُّ صَديقاً وصاحباً وقال عنه: ( لو كنت متَّخِذاً أحداً خليلا لاتِّخذتُ أبا بكرٍ خليلا،ولكنْ أخي وصاحبي). نعم،هو صدِّيقُ هذه الأمة، أبو بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه.هذا أبو بكرٍ الذي وُزِنَ إيمانُه بإيمانِ الأمة كلِّها،هو أوَّلُ الخلفاءِ الراشدين،وأوَّلُ العشرةِ المبشرين،سُئِل رسولُ الله : (أيُّ النَّاس أحبُّ إليك؟ قال: عائشةُ، قيل: ومن الرِّجال، قال: أبوها) هو أوَّلُ من آمنَ من الرِّجالِ وتلكَ واللهِ مَزيَّةٌ خاصًّةٌ!لمَّا دعاهُ النبيُّ إلى الإسلام لم يتردَّد لحظةً في تصديقهِ والإيمانِ به وفي ذلك يقولُ : (( ما عرضتُ هذا الأمر على أحدٍ إلا كانت منه كَبْوَةٌ وتردُّدٌ ونَظَرٌ إلا ما كان من أبي بكر، ما إنْ عرضتُ عليه الأمر حتى صدَّقني وآمن بي)). قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ لأصحابه:ناشدتكمُ اللهَ،أيُّ الرجلينِ خيرٌ:مؤمنُ آلِ فرعونَ أو أبو بكرٍ؟فأمسكَ القومُ، فقال عليٌّ :واللهِ،ليومٌ واحدٌ من أبي بكر خيرٌ من مؤمنِ آلِ فرعونَ،ذاكَ رجلٌ كَتَمَ إيمانَه فأثنى الله عليه، وأبو بكرٍ بذلَ نفسَه ودمَه ومالَه .
ثم أبو بكرٍ يا كرامُ:كان يجهرُ بإيمانِهِ في كلِّ مكان،فلمَّا ضُيِّقَ على المسلمينَ بمكَّةَ صار يُصلِّي بفناءِ دارِهِ وَيقرَأُ القرآنَ،فيجتمعُ عليه نساءُ المشركينَ وأبناؤهم،ويعجبونَ من بُكائِهِ! وكان رجلا بكَّاء،لا يملكُ عينَه إذا قرأَ القرآنَ،فَأفزَعَ ذلكَ المشركينَ!
أيُّها الكرام، تجدون في سيرة أبي بكر رضي الله عنه هِمَّةَ الداعيةَ الصَّادقَ،فقد جعل إسلامَه طريقا لإسلام الآخرين،فأثَّر فيمن يجالِسُه فألفوه بطيبِ أخلاقِه وحسنِ دعوتِه،إذْ أسلمَ على يديه فضلاءُ الصحابة رضي الله عنهم،منهم عثمانُ بنُ عفانَ والزبيرُ بنُ العوَّامِ وسعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ وعبدُ الرحمنِ بنِ عوفٍ وطلحةُ بنُ عبيدِ الله رضي الله عنهم وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ لُقِّبَ بالصِّدِّيقِ لسرعةِ إيمانه وتصديقه بما يقولُه رسول الله ، فلَمَّا أُسريَ بالنبيِّ لبيتِ المَقدِسِ وكذَّبته قريشٌ وذهبوا إلى أبي بكر شامتينَ مُستهزئينَ فما كان منهُ إلا أنْ قال: (إنْ كان قال فقد صدق،إنِّا نصدِّقه في الخبر يأتيه من السماء،أفلا نصدقه فيما دون ذلك ؟) وكان رسولُ الله يلقِّبُهُ بالعتيقِ، فقد قالت عائشةُ رضي الله : نظرَ رسولُ الله إليه وقال: (هذا عتيقُ اللهِ من النَّار)ولُقِّبَ بالأوَّاه؛لرحمته ورأفته رضي الله عنه وأرضاه يكفيه شرفاً أنَّ أنزلَ اللهُ فيه قرآناً يُتلى إلى يوم القيامةِ,فقد وصفه,ربُّه بالتقوى والإخلاص وبين سبحانه أنَّه عنه راضٍ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى.الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى.وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى.إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى.وَلَسَوْفَ يَرْضَى أجمع المفسرون أنَّها نزلت في أبي بكرٍ حين مرَّ رسولُ الله ببلالٍ وهو يُعذَّبُ ويقول: أحدٌ أحد، فقال: لأبي بكر:
(يا أبا بكر إنَّ بلالاً يُعذَّبُ في الله) فانْصَرَفَ إلى منزلِه فأخذَ رِطلاً من ذهبٍ، ومضى به إلى أميةَ بنَ خلفٍ،فقال: أتبيعُني بلالاً؟ فقال: نعم، فاشتراه فأعتقه للهِ تعالى، فَرضي الله عن صِدِّيق الأمَّة وأرضاه, وجمعنا به مع محمدٍ في جنَّة الخلدِ ودار الكرامةِ.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رفعَ قدرَ أولي الأقدارِ،نحمدُه سبحانه ونشكُرُه على فضلِه المدرارِ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحدُ القهارُ،ونشهد أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمداً عبدُ الله ورسولُه المصطفى المختار،صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله الأطهار وأصحابِه المهاجرينَ منهم والأنصارِ،والتَّابعينَ ومن تَبعهم بإحسانٍ إلى يومِ القرارِ. أمَّا بعدُ: فاتقوا الله عبادَ اللهِ:واعلموا أنَّهُ كُلَّمَا ذُكرتِ الهجرةُ تبادرَ إلى الأذهانِ قولُ اللهِ: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا نعم الله ُمعهما معيَّةً خاصَّةً يحفظهم ويرعاهم,لقد كان لأبي بكرٍ رضي الله عنه نفسٌ تواقَةٌ في الخير،ففي الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((من أنفق زوجينِ في سبيلِ اللهِ نودي من أبوابِ الجنةِ،فمن كان من أهلِ الصَّلاة دُعيَ من باب الصلاة،ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد،ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الرَّيانِ،ومن كان من أهل الصَّدَقَةِ دُعي من باب الصدقة))،فقال أبو بكر: يا رسول الله، هل يُدعي أحدٌ من تلك الأبواب كلِّها؟ قال : ((نعم، وأرجو أن تكون أنت منهم)).إنَّهُ رضي الله عنه ما تَرَكَ غزوةً غزاها النبيُّ إلا خرجَ فيها بنفسه ومالِهِ مُجاهداً في سبيل الله.قال عنه رسولُ الله : ((إنَّ أمنَّ الناسِ عليَّ في صحبته وماله أبو بكر)) وقال رسولُ الله : ((ما لأحدٍ عندي يدٌ إلا كافأتُه بِها,إلاَّ ما كان من أبي بكر فإنَّ له عندي يداً،والله يكافِئُه بها،ما نفعني مالُ أحدٍ قطُّ ما نفعني مالُ أبي بكر)) بيتُه بيتُ علمٍ إيمانٍ،أَسلَمَ أبوهُ وأمُّهُ وأولادُه وأولادُ أولادِه, وأدركوا النبيَّ ,ومن هذا البيت خرجت أمُّنَا حبيبةُ رسولِ الله ! أبو بكرٍ رجلٌ أسيفٌ,إذا قرأ القرآن لم يملك دمعَ عينيه شبَّهَهُ الرسولُ بإبراهيمَ وعيسى في لينهما في جنبِ اللهِ, وأوَّلُ من يدخلُ الجنةَ من هذه الأمة بعد نبيها أبو بكرٍ,وأبو بكرٍ وعمرُ سيِّدا كهولِ أهل ِالجنة من الأولينَ والآخرينَ إلا النبيينَ والمرسلينَ.أيُّها المؤمنونَ:يا أهل السُّنَّةِ والجماعةِ:ولا يعرف الفضلَ لأهلهِ إلا الشُّرفاءُ,فلقد أحبَّ الصحابةُ أبا بكرٍ وأجلُّوه,فلا يعدلون به أحدا, فيا الله، ما أروعها من سيرةٍ وأعظمَها من مَسيرةٍ !
واعلموا يا كرامُ:أنَّ التأريخ الإسلاميَّ ليس مجردَ أحداثٍ مُدوَّنةٍ،ولكنَّه عقيدةُ الأمة ودينُهُا, وميزانُها وعظمتُها!والأمَّةُ التي لا تُحسن فِقه تاريْخَها ولا تحفَظُ حقَّ رجالِها أمَّةٌ ضعيفةٌ, مُضيعةٌ لمعالمِ طريقها.يتطاولُ عليها السُّفهاءُ والرِّعاعُ,وحدِيثُنا عن صِدِّيق أمَّتنا,لم نقصد التَّعريفَ بمجهولٍ ولا الرَّفعَ لمخفوضٍ,فهو أرفعُ مكانًا وأجلُّ شأنًا رضيَ اللهُ عنهُ وأرضاهُ. إلاَّ أنَّ المقام يستدعي تَجلِيَةَ مَسلَكَ الضالِينَ المُخالفين لِسبيلِ المؤمنينَ,ألئك الرَّوافضَ الهالِكينَ,ممن ناصبوا أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ ورجالاتِ الإسلام العداءَ والبغضاءَ,فمن سبَّ الصحابةَ أو انتقصَهُم فقد تحرَّرَ من ربقةِ الإسلام,فالقدحُ فيهم قدحٌ في الشَّريعةِ الإلهيةِ؟! إذ هم حَمَلَةُ الآثار ورواةُ الأخبارِ, كان اللهُ للرَّوافضِ بالمرصادِ.
عباد الله:لقد عشنا لحظاتٍ مع سيرةِ أبي بكر وإيمانِهِ باللهِ،وبذلِهِ في سبيلِهِ,فلنتخذ من هذا الإيمان مِشْعَلاً،ولنستفد من مناقِبِهِ دروسَاً في حبِّ اللهِ ورسولِهِ،ودروسًا في التقوى والصَّبر والثَّباتِ،والحلمِ والأَنَاةِ،سيرتُه درسٌ في الاهتمامِ بأمرِ المسلمينَ وخدمَةِ الدِّينِ.فرضيَ اللهُ عن أبي بكر وأرضاه،وطاب ذِكرُهُ حيًّا وميتِّا ورضي الله عن الصَّحابَةِ أجمعين.هذا وصلُّوا رحمكم الله على البشير النذير،كما أمرنا الله بقوله: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك على محمدٍ وعلى آلِه الطَّيبينَ وأصحابِهِ أجمعينَ . اللهم أعز الإسلام والمسلمين,واحم حَوزَةَ الدِّينِ،واجعل هذا البلد آمنا مطمئنًا،وسائرَ بلادِ المسلمين.اللهم عليك بالرَّافِضَةِ الظَّالِمينَ الذين يُبغضونَ صحابةَ رسولِكَ ويلعنونَ المؤمنينَ اللهم انتقم للمسلمين منهم, واجعل بأسهم بينهم شديدا, وافضحهم على رؤوس الأشهادِ,
اللهم اجعلنا ممن قبلتَ صيامَهُ وقيامَهُ وسائِرَ أعمالِهِ,اللهم واجعل مُستقبلنا خيراً من ماضينا اللهم ثبِّتنا بالقولِ الثَّابتِ في الحياةِ الدُّنيا ويومَ يَقومُ الأشهادُ,اللهم اعصمنا من الفتنِ ما ظهر منها وما بطَنَ,اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمينَ,ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً،وقنا عذاب النار، عباد الله: اذكروا اللهَ العظيمَ يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعونَ.
0
0
3.1K
10-06-1433 12:11 مساءً