خطبة الجمعة 27-12-1431هـ بعنوان نهاية العام
الحمدُ لله، تفرَّد عزًّا وكمالاً، جَلَّ وتقدَّس وتعالى، نسألُه صلاحَ الشَّأنِ كلِّه حالاً ومآلاً. ونشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، خَلَقَ الْموتَ والحياةَ لِيَبلُوَ الناسَ أيُّهم أحسنُ أعمالاً.ونَشْهدُ أنَّ نَبِيَّنَا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، خيرُ الناسِ خِصالاً،حذَّرَ مِنْ الاغترارِ بِهذه الدَّارِ، وَأَمَرَ بالاستعدادِ لدارِ القَرَارِ، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آلهِ وأصحابِه البَرَرِةِ الأطهارِ،
أما بعد: فاتقوا الله على كلِّ حال وفي كلِّ مكانٍ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ أيُّها المسلمون : حياةُ الإنسانِ مراحلٌ، والناسُ في الدُّنيا بين مُستعدٍِّ للرحيلِ وراحلٌ، وكلُّ يومٍ , بلْ كُلُّ نَفَسٍِ يُدني من الأجلِ، فالكيِّسُ من حاسَبَ نَفْسَهُ يومًا بِيَومٍ ، فما الناسُ إلاَّ حيٌّ أدركتُه منيِّتُهُ، فَوُرِيَ بالتُّرَابِ، أو صغيرٌ بلغَ سِنَّ الشَّباب، أو شيخٌ امتدَّت به الْحَيَاةُ حتى شابَ، ومن وراءِ الجميعِ نقاشٌ وحسابٌ، فهنيئاً لمن أَحْسَنَ واستقامَ، والويلُ لِمَنْ أساءَ وارتكبَ الآثامَ، ويَتُوبُ الله على مَن تاب، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ اللهُ أكبرُ عباد الله:هكذا في لَمْحِ البَصَرِ يُطوى تاريخُ عامٍ كاملٍ طالما عشنا فيه آمالاً وآلاماً وطالما كانت لنا فيه ذكرياتٌ وطموحاتٍ ، وفي توديعِ عامٍ واستقبالِ عامٍ جديدٍ ! فُرَصٌ للمتأمِّلين , وذكرَى للمُعتبرين ، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ
عباد اللهِ :إنَّ المؤمنَ حينَ يودِّع مرحلةً من عمُره ويستقبِل أخرى فهو في حاجَةٍ ماسَّةٍ لِمُحَاسَبَةِ نَفْسِه وتقييمِ مسارِها في ماضِيها وحاضرِها ومُستقبلِها، يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ: "وهلاكُ القلبِ إنَّما هو من إهمالِ محاسبَةِ النَّفْسِ ومِن موافَقَتِها واتِّباعِ هواها"
فليتَ شِعري ماذا أودَعنا في عامنا الماضي؟ وماذا عسانا أنْ نَسْتَقْبِلَ به عامَنا الْجَديدُ ؟ قال أبو الدَّرداءِ رضي الله عنه: (يا ابنَ آدم، إنِّما أنتَ أيَّامٌ، فإذا ذهبَ منكَ يومٌ ذهبَ بعضُك ) وروى البخاريُّ رحمه اللهُ عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال:أَخَذَ النبيُّ ِبمَنْكِبي فقال: ( كُنَْ في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ ) وقال َ( ما لي وللدنيا؟! ما أنا في هذه الدُّنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحتَ شجرةٍ ثم راحَ وتَرَكَهَا ) . فيا لها من وصيَّةٍ بَلِيغَةٍ تصحِّحُ مَنْظُورَ الْمُسلمِ لهذه الحياةِ ! فعابرُ السَّبيلِ يتقلَّلُ من الدَّنيا، ويستكثرُ من زادِ الإيمان، عابرُ السَّبيلِ لا يُدَنِّسُ نَقَاءَ النَّهارِ بآثامِه، ولا يُقَصِّرُ الليلَ بغفلته وَمَنَامِهِ، إنْ دُعيَ إلى طاعةٍ أجاب، وإنْ نودِيَ إلى الصلاة لبَّى، مع الأسف الشَّديدِ يا كرامُ: واقعُ الكثيرينَ منَّا! يحكي أنَّ الدُّنيا عَشْعَشَتْ في قلوبِنا ، ونصبَت فيها راياتٌ، حديثنا فيها :كم نَربح ؟ وكيف نجمَع ؟ إنْ ضُرِب موعِدٌ للدُّنيا بادرنا إليه مبكِّرين، وأقمَنا عند بابه فرِحين، ولا نُبقي للآخرةِ في قلوبِنا إلاَّ رُكْنًا ضيِّقًا! إلاَّ من رحم ربِّي ! أتريدون الشاهدَ والبرهانَ على ما أقولُ؟ تأمَّل إذا رُفِعَ الأذانُ: هل أنتَ مْن هؤلاءِ الْمُبكِّرينَ الْمُسارِعِينَ للخيرات ؟ فهنيئاً لهم ! إذا احتاجَ المنكوبونَ والمستضعفونَ إلى الأموالِ فهل أنتَ مْن هؤلاءِ من المبادرين والمنفقينَ ؟ فباركَ اللهُ في أموالِهم ! يا عبدَ الله، أمضيتَ في عامِكَ أكثرَ من ثَلاثِمِائَةٍ وستينَ يومًا ؟ فكم بربِّك قضيتَ من الوقت في لِهْوٍ مباح، ناهيكَ عن غيرِ الَمُباحِ ؟! يا عبد الله، كم حصَّلت في عامِك من الريالات ، فبالله عليك كم أنفقتَ منها في سبيلِ الهوى والشَّهوات ومُسَايَرَةِ الْمُتطلَّبات والحاجيَّاتِ ؟! ثم اسأل نفسك كم أنفقتَ منها للهِ , ولدينِه , وللمؤمنين ؟! أخرج الإمامُ مسلمٌ رحمه اللهُ بسنده عن مُطَرِّفٍ عن أبيه قال: أتيتُ النبيَّ وهو يقرأُ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (يقولُ ابنُ آدمَ: مالي , مالي) (وهل لكَ يا ابنَ آدمَ من مالِكَ إلا ما أَكلْتَ فأفنيتَ أو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أو تصدَّقتَ فأمضيتَ )،
يا عبد الله،مَرَّ عليكَ في عامِكَ الْمُنصَرِمِ ألفٌ وثمانُمائَةِ صلاةٍ مَفرُوضةٍ،فكم حَفِطتَ منها؟! بل كم ضيَّعتَ منها بعذرٍ وبغيرِ عذر؟ كم من صلاةٍ أدَّيتها على عُجَاَلٍة وأنتَ مَشغوُلُ البالِ؟ ولا يخفى على أمثالِكُم أنَّ الطمأنينةَ ركنٌ لا تصحُّ الصلاةُ إلا بِها،
يا عبد الله، مَرَّ عليكَ في عامِكَ الْمُنصَرِمُ اثنا عَشَرَ شَهْرَاً فهل أنتَ من البَرَرَةِ الذينَ يقرؤونَ القرآنَ بِتَدَبُّرٍ في كلِّ شهرٍ مَرَّةٍ ؟، اسأل نفسك كم ختمتَ القرآنَ من مَرَّةٍ ؟! لِنَحذَرَ أنْ نكونَ ممن شكاهم الحبيبُ لِمَولاه حين قال: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا أخي مرَّت على أقَارِبِكَ مُناسباتٌ وأعيادٌ ,وأفراحٌ ، وأتراحٌ ! فهل
شاركتَهُم فيها ؟ هل وَصَلْتَ رَحِمَكَ ؟! فأنت تعلمُ أنَّ من وصَلَهُمْ وَصَلَهُ اللهُ، ومَنْ
قَطَعَهُم قَطَعَهُ اللهُ !
أمُّكَ وأبوكَ نورُ عينيكَ , وبَهجتُ دنياكُ , وذخرُ أُخَراكَ ! ما حالُكَ
معهما ؟ لعلكَ ممن يُقَدِّمُ وَلَدَهُ وزوجَهُ وأصدِقَائَهُ عليهما ؟ فاحذر فكما تدينُ
تُدانُ ! والزمْ رِجْلَيْهِمَا فَثمَّ الجنةُ !
عباد اللهِ : طوبى لِمَنْ اغْتَنَمَ أَيَامَهُ بما يُقَرِّبُهُ إلى الله، طوبى لعبدٍ شَغَلَ نَفْسَهُ بالطَّاعات واتَّعظ بما في الأيامِ مِن العِظَاتِ،
كُلُّ يومٍ يَمُرُّ يَأْخُذ بَعْضِي يُورِثُ القَلْبَ حَسْرَةً ثم يَمْضِي
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا () اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا
فاللهم إنِّا نسألكُ حُسْنَ القول والعملِ
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلِّها وأجرنا من خزي الدنيا وعذابِ الآخرةِ
واستغفر اللهَ لي ولكم وللمسلمين من كلِّ ذنبٍّ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله دَعَا العِبَادَ لِمَا تَزكُوا به النفوسُ وتَطْهُر، نشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له ,كُلُّ شيءٍ بِأَجَلٍ مُقَدَّر، ونشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسولُه ,أَبْلَغُ واعظٍ وأَصْدَقُ مَنْ بَشَّر وأنذر، صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابِه خيرِ صَحْبٍ ومَعْشَرٍ، أَمَّا بَعدُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ . عباد الله، جُمْعَتُكُم هذه هي آخِرُ جُمُعَةٍ من هذا العام، فأيُّها الْمُسْلِمُ، نعم أنتَ يا من تَسمَعُنِي ! راجعْ نفسَكَ على أيِّ شيءٍ سَتَطوِيْ صَحَائِفَ هذا العام ؟ فَلَعَلَّهُ لم يبقَ من عُمُرِكَ إلا أيامٌ، فاستدركْ عُمُرَاً أَضَعْتَ أوَّلَهُ ، فقد قال النبيُّ : ( اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابَكَ قبل هرمِكَ، وصحتَك قبل سَقَمِكَ، وغِنَاكَ قَبل فَقرِكَ، وفَرَاغَكَ قبل شُغْلِكَ، وحياتَكَ قبل مَوتِكَ ). معاشر الأحبَّةِ:واللهِ لَتَمُوتُنَّ كما تَنَامُونَ، ولَتُبعَثُنَّ كما تَستَيقِظُونَ، وَلَتُخْبَرُنَّ بِما كُنتم تعلمونَ، فَجَنَّةٌ لِلمُطِيعِينَ، ونارُ جَهَنَّمَ للعاصينَ، أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . أحبتي في الله، مَنْ غَفَلَ عن نَفْسِه ضاعت أوقَاتُهُ ثم اشتدَّت عليه حَسَرَاتُهُ، وأيُّ حسرةٍ مِنْ أنْ يكونَ عُمُرُكَ حُجَّةً عليكَ ؟ عجيبٌ حالُ الغافلِ: يوقنُ بالْمَوتِ ثم يَنْساه! ويعرفُ الضَّرَرَ ثم يغشاه! يَخشى الناسَ واللهُ أحقُّ أنْ يخشاه! يَغْتَرُّ بالصِّحَةِ وينسى السَّقَمِ! ويَزْهُو بالشَّبَابِ وينسى الْهَرَم! يَهْتَمُّ بالعِلْمِ وينسى العمل! يَطُولُ عُمُرُهُ ويَزْدَادُ ذَنْبُهُ! يَبْيَضُّ شَعْرُهُ وَيَسْوَدُّ قَلْبُهُ! سبحانَ الله ، أَلَمْ يَأْنِ لنا أنْ نُدرِكَ حقيقةَ هذه الدَّارِ؟! يا قوم، إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ يا مسلم ، ذهب عامُكَ شاهداً لكَ أو عليكَ، فخذ زاداً كافياً، وأعدَّ جواباً شافياً ، واستكثر من الحسناتِ، وتدارك ما مضى من الهفوات، قبل أنْ يَفْجَأُكَ هادمُ اللذَّاتِ، فقد قال رسولُ الله : ( كلُّ الناسِ يغدو، فبائعٌ نفسَه فمعتِقُها أو مُوبِقُها)
يا من أقعده الحرمانُ، وأثقلهُ العصيان، كم أغلقت باباً على قبيحٍ ؟ إلى متى تُعرِضُ عن النَّصِيحِ؟ أنسيتَ ساعةَ الاحتضارِ؟! حين يثقلُ منك اللسانُ، وترتخي اليدانُ، وتشخصُ العينانُ، ويبكي عليك الأهلُ والولدانُ، أنسيتَ حين يشتدُّ الكربُ، ويَظْهَرُ الأنينُ، وَيَعْرَقُ الجبينُ، ( فلا إله إلا اللهُ، إنَّ للموتِ لسكراتٍ ). أين من عاشرناهم كثيراً وألفناهم؟! أين مَْن مِلنَا إليهم وأحببناهم ؟! كم عزيزٍ دفنَّاهُ , وقريبٍ أضجعناه ، فهل رحم الموتُ مَريضاً لضعفِ حالِه ؟! أو ذا عِيالٍ لأجْلِ عياله؟! لا واللهِ أتاهم الْمَوتُ، فأخلى منهم المجالسَ والمساجَد، لا يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِم ضَّرَّاً ولا نَفْعَاً، فيا عبدَ الله، دَعِ اللهوَ جَانِبَاً، وقمْ إلى ربِّكَ نادما ، وقِف على بابهِ تائباً، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ( إنَّ الله عزَّ وجلَّ يبسطُ يَدَهُ بالليلِ ليتوبَ مسيءُ النَّهارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهارِ لِيَتُوبَ مُسيءُ الليلِ، حتى تطلعَ الشَّمسُ من مَغربِها) فأحسنْ فيما بَقِيَ, يُغفرْ لك ما قد مَضَى وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آلهِ وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على الكافرين. اللهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداءَ الدِّين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين. اللهمّ آمنا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاةَ أمرنا، اللهم وفقهم لما فيه صلاحُ الإسلام والمسلمين رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ . رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ عباد الله، فاذكروا الله العظيمَ الجليل يذكركم، واشكروه على عموم نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
0
0
42.8K
05-24-1433 01:55 صباحًا