خطبة الجمعة 21-11-1431هـ بعنوان جارُنا العزيز
الحمد لله ألَّف بين قلوبِ المؤمنين، ووحَّد بين صفوفِهم، فضَّلنا على سائر الأمم و الأديان, نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعزَّ أهل التُّقى والإيمانِ،ونشهد أنَّ سيِّدَنا محمدًا عبد الله ورسوله دارُه خيرُ دار , وجوارُه أكملُ وأكرمُ جوار،اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله الأبرار وصحبه الأخيار, ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم القرار .
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله : القائلِ في محكم القرآن : وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا
أيُّها المؤمنون : من أسباب السَّعادة والهناءِ ما ذكرهُ النبيُّ حين قال: ( أربعٌ من السعادة: المرأةُ الصالحة، والمسكنُ الواسع، والجارُ الصالح، والمركبُ الهنيء) صحَّحه الألبانيُّ.
حقَّاً الجارُ الصالِحُ نعمةٌ وسعادةٌ وهناءٌ , كيف لا يكون كذلك وهو بابٌ واسعٌ من أبواب الأجر والثَّوابِ ؟!
وجبريلُ الأمينُ عليه السَّلام ما فتئَ يُكثر من التأكيد على حقِّ الجار وإكرامِه حتى ظنَّ رَسُولُ اللَّهِ أنَّه سيكونُ بمنزلة القريبِ ! قَالَ : ((مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)) وفي حجَّةِ الوداع يوصي رسولُ الله بالجار ويأمرُ بإكرامهِ !
بل بشَّر المصطفى بالخيريَّةِ لمن أحسنَ وأكرمَ جيرانَه فقال : «خيرُ الأصحابِ عند الله خيرُهم لصاحبه وخيرُ الجيرانِ عند الله خيرُهم لجاره »
وعدَّ من صدقِ الإيمانِ وكمالِه, إكرامُ الجيرانِ والإحسانُ إليهم, فقال: «من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره » وقال : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره »
وكمالُ الإيمان مُتمثِّلٌ بالإحسانِ إلى الجيران قال رسولُ الله لأبي هريرةَ : « وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، »
هكذا كان أمرُ النَّبيِّ وحثُّه ! فكيف كان هديه مع جيرانه ؟ لقد رسم لنا النّبيُّ أكرم صورةٍ وأوفاها مع جيرانه فكان يأمرُ أبا ذَرٍّ فيقول له: ( إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً, فَأَكْثِرْ مَاءَهَا, وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ )
وكان يُهدِي ويُهدَى إليه ويقبلُ الهدية منهم وإنْ قلَّت !قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها : قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَار، وَكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، فَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنْ أَلْبَانِهَا فَيَسْقِينَاهُ.
أيُّها المسلم : دينك يحُضُّكَ ويأمرُكَ على حسن الجِوار وإليكَ بعضَ صورِ ذلك فَخُذْ منها ما يناسِبُكَ وما تستطيعُ تطبيقَه , تعرَّف على جيرانِك وكن مبادراً لهم إذا حَلَّوا في جوارك , ابدأهم بالسَّلام إذا خرجت وإذا دخلت. فهو من علامات التواضع وخفضِ الجناح للمؤمنين ! بسلامك على جارك تزرعُ محبتَك في قلبه خاصَّةً مع طلاقه الوجه وبشاشته ! ومن صور حسن الجِوار الإهداءُ إليه وبذلُ المعروف له ، فكم من هديةٍ أوقعت في قلب الْمُهدى إليه أثرا عظيماً، فهي تقرِّبُ النُّفوسَ وتزيلُ الأحقادَ وتبرهنُ على صدقِ المودَّة وعظيمِ المحبة، وهي نوعٌ من الإكرام ( ومَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ ) نعم النَّاس بحمد الله بخير وغير مُحتاجينَ لطعامٍ ولا لشرابٍ ولكنَّ الهديةَ لها معنىً ومغزىً ورسولنا خيرُ أُسوةٍ لنا ,وهذه صورةٌ مع الأسفِ قلَّت في هذا الزَّمن بينما كان لها أثرٌ وذكرياتٌ لا تُنسَ !!
ومن صور حسن الجِوار محبَّةُ الخيرِ للجار كما يحبُّها العبدُ لنفسِه ، وفي الحديث قَالَ :
( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ ـ أَوْ قَالَ: لأَخِيهِ ـ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) ساعد جيرانكَ بما تستطيعُ ماديَّا, ومعنويَّاً, بمالك وجاهك إذا هُمُ احتاجوا لذلك ،
فقد كان الأَشْعَرِيِّونَ بِالْمَدِينَةِ رضي الله عنهم إِذَا قَلَّ طَعَامُهم جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ،حينها قال عنهم : ( فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ )
وفي الحديث قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : أتدرون ما حقُّ الجار؟ إنِ استعان بك أعنتَه، وان استنصرك نصرتَه، وإن استقرضَكَ أقرضتَه، وإنِ افتقر عُدْتَ عليه )
أيُّها المؤمن : شارك جيرانَك في أفراحهم وأتراحهم , عُدْهم إذا مرضوا , تفقَّدهم إذا غابوا, قفْ معهم عند الشدائد والأزمات, انصح لهم, وأحسن عشرَتَهم , وكن رحمةً عليهم !
فهذه صورٌ مُشرقةٌ يا مؤمنون :أرادها الله تعالى منَّا بل وحدَّد المصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام لها تنظيماً دقيقاً , فأمر بتقديم الأقربِ فالأقربِ , قالت عائشةُ رضي الله عنها: يا رسولَ اللهِ، إنَّ لي جارين فإلى أيِّهما أُهدي؟ قال: «إلى أقربِهما منكِ بابا» فَعَقَلَ الصحابةُ المعنى جيدا,فكان أبو هريرةَ يقول (ولا يبدأُ بجاره الأقصى قبل الأدنى ) وصدق المولى وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ
فلنبدأ ياكرامُ : من يومنا بالإحسان إلى جيراننا والقيام بحقوقهم، ولا نُكثرَ من لوم الزَّمن والنَّاس فالمجتمع أنا وأنت ! ولنطرح عنَّا جانبا كيدَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا
فاللهم وفقنا لِما تُحِبُّ وترضى وأعنَّا على البِرِّ والتَّقوى ,
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وفَّق من شاء لمكارم الأخلاق, وهداهم لما فيه فلاحُهم وسعادتُهم في الدنيا ويوم التَّلاق, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ,الملكُ الخلاَّق، وأشهد أنَّ محمدا عبد الله ورسوله أفضلُ الْبَشَرِ على الإطلاق, صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم التَّلاق.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله: حق التقوى وتزوَّدوا من الصالحات للأخرى,
أيُّها الكرام : ومن الصور المضيئة لكسب الجيران واستبقاء المودَّةِ بينهم ! أن تكون أميناً على أسراره حافظا لها ، حريصاً على مصالحه كما تحرص على مصالحك ! ومن أعظم حقوق الجار النَّصحُ له بالمعروف، خاصَّةً إنْ تكاسلَ عن صلاة الجماعة ، فإنَّ حقَّاً على كلِّ متجاورينِ أن يتواصلا في ذلك ، فإنَّه ما من جارٍ إلا سيتعلَّقُ بجاره يومَ القيامةِ يطالبُه بحقِّه، روى البخاريُّ رحمه الله في الأدب المفرد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعتُ رسولَ الله يقول: (كم من جار متعلِّقٍ بجاره يوم القيامة يقول: يا ربِّ هذا أغلق بابَه دوني فمنع معروفه) أما علمتم يا مؤمنون : أنَّ الإحسانَ إلى الجار والقيامَ بحقه سببٌ لمغفرة الذنوب، قال النَّبِيُّ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَشْهَدُ لَهُ ثَلاثَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ إِلاَّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ )) حسَّنه الألبانيُّ. ومن حسن الجوار السماحةُ مع الجار, وأن تكونَ حسن المعشر، لطيفَ المعاملة لا تمنع جاركَ من الاستفادةِ من بيتكَ أو جميعِ مرافقكَ إن احتاج إلى ذلك مُستهدياً بِهدي النبيِّ القائل (( لا يمنعُ جارٌ جاره أن يغرزَ خشبةً في جداره ))
وأعظم الأخلاق وأزكاها أن تتحمَّل أذى الجار: فقد علَّمنا دينُنا ألا نقابلَ إساءَة الجار بالإساءة بل نصبرُ على أذاه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً
فالله تعالى يقول : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ جاء رجلٌ إلى ابنِ مسعودٍ فقال له: إنَّ لي جارا يؤذيني ويشتُمُني ويضيِّقُ عليَّ، فقال: ( اذهب فإنَّه عصى الله فيك فأطعِ الله فيه ) وقال الحسنُ البصريُّ رحمه الله : ليس حُسْنُ الجوار كفُّ الأذى،إنَّما حسنُ الجوار الصبرُ على الأذى.
عباد الله :الإحسان إلى الجار يدلُّ على كمال الإيمان وحسن الإسلام, حسنُ عَلَاقَتِكَ مع جيرانك إرضاءٌ لله تعالى وإسخاطٌ للشَّيطان,إذا حسَّنت علاقَتَكَ مع جيرانك سادكم الحبُّ والوئام , حسنُ الجوار بابٌ من أبواب الجِنان , فاسلكوا يا مؤمنون: خير نَهج يوصلكم إلى مرضاة ربِّكم وأحسنوا معاملة جيرانكم تفلحوا في دينكم ودنياكم،
فاللهم إنِّا نعوذ بك من جار السُّوء في دار الْمُقامةِ؛ فإنَّه بئس البضاعة,
اللهم اهدنا وجيرانِنَا ووفقنا لما تحبُّ وترضى، وارزقنا الألفةَ والمحبةَ والتَّقوى ,
اللهم إنَّا نعوذ بك من الشقاق وسيئِ الأخلاق .
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين,
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح ووفِّق أئمتنا وولاة أمورنا لما تحبُّ وترضى ,
اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، واختم بالصالحات أعمالنا، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عباد الله: اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
0
0
2.1K
05-24-1433 01:46 صباحًا