خطبة الجمعة 17-09-1431هـ بعنوان تحويل القبلة آيةٌ وعبرةٌ
الحمد لله جعل شهرَ رمضانَ أفضلَ شهورِ العام، أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيِّناتٍ من الهدى والفرقان،نشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عظيمُ الجلال والشأن، ونشهدُ أنَّّ نبينا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله رحمة وأماناً للإنس والجان، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والإتباع و الإيمان ,ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم الدِّين .
أمَّا بعد: فيا صائمون إلزموا تقوى الله سرا وعلانا ثم اعلموا أنَّ الصيامَ والقرآنَ متلازمان اعتقادا وقولا وعملا الم ذلكَ الكتابُ لا ريبَ . فيه هدىً للمتقين
قصَصٌ ربانيٌّ وكلام إلهيٌّ دون شكٍّ ولا ارتياب .
ثمَّ اعلموا يا رَعاكم الله، أنَّ تأمُّلَ القَصَصِ ، يزيدُ المؤمنَ معرفةً بربِّه ويقينًا بقدرته وعظمَتِه، فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فتأمَّلوا اليوم قصةً ذكرها الله لنا في سورةٍ من أعظم السُّورِ مكانةً ! هي سورةُ البركةِ والحصنِ من الشيطانِ والسَّحرةِ قال عنها النبيُّ ((اقرؤوا سورةَ البقرة؛ فإنَّ أخذها بركةٌ، وتركها حسرةٌ، ولا تستطيعها البَطَلَةُ)) يعني السحرة . هذه القصةُ وصفها الشيخُ السَّعديُّ رحمه الله أنَّها اشتملت على معجزةٍ لرسول الله ، وهي تسليةٌ، وتطمينٌ لقلوبِ المؤمنينَ، وفيها صفةُ المعترضينَ على أحكام الله، وكيف يكونُ المسلمُ لِحُكم اللهِ ودينه ؟.
قالَ الباري جلَّ وعلا : سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ
عباد الله : كان العربُ والمسلمونَ يعظِّمون البيتَ الحرام ، ويعدُّونه عُنوانَ مجدِهم . لأنَّه أوَّلُ بيتٍ وضع للناس، وأعظمُ بيتٍ في الأرض؛ وكان رسولُ الله كذلك يُصلي لله ويتعبَّدُ لله نحو الكعبة ! ولما بُعث رسولُ الله أمِرَ باستقبالِ الصَّخرة من بيت المقدس، فكان وهو بمكةَ يُصَلِّي بين الركنين، فتكونُ الكعبةُ بين يديه وهو مُستقبلٌ بيتَ المقدس، والحكمةُ والله أعلم من أمرهم بالتَّوجُّهِ لبيت المقدس بعد البعثةِ مُباشرةً ! لأنَّ الله عزَّ وجلَّ أراد استخلاصَ قلوبَ المؤمنين وتجريدَها لله تعالى, وتخلِيصَها من كلِّ نعرةٍ عصبيةٍ، أو نزعةٍ قومِيَّةٍ, وليَظْهرَ من يتَّبعُ الرسولَ إتباعاً صادقاً واثقاً , راضياً مُستسلماً ، ممن ينقلبُ على عقبيه معتزَّاً بِجنسِه وقومِه وأرضِه! تاركاً أمرَ ربِّه !! ولهذا قال مشركوا مكة: يدَّعي محمدٌ أنَّه على ملةِ إبراهيمَ ويخالفُ قبلتَه ؟! وهذا نوعٌ من الابتلاء والامتحانِ لرسول الله وأصحابه ! وزاد الأمرُ مشقَّةً على المسلمين حين هاجر النبيُّ وصحابتُه إلى المدينة النبويةِ فقد تَعَذَّر أن يجمعوا بين القبلتين،فكانت الكعبةُ خلفَ ظهورهم تماماً وبيتُ المقدس أمامهم أثناءَ صلاتِهم تماماً بقوا على ذلك بعد الهجرة إما سنةً وأربعةَ أشهر؛ أو سنةً وخمسةَ أشهر؛ مُستقبلين بيت المقدس والكعبةُ خلفهم تماماً !
( قال البخاريُّ رحمه اللهُ : صلَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم إلى بيتِ المقدسِ ستَّة عَشَرَ شهرا أو سبعةَ عشر شهراً، وكان يعجبُه أن تكونَ قبلتَه قِبَلَ البيتِ )
حتى صار توجُّهُ النبيِّ لبيتِ المقدسِ الذي هو قبلةُ اليهود وسيلةً للتَّضليلِ والتَّلبيسِ على دين محمدٍ حيث قال اليهودُ كيف يجحد دينَنَا ويتبعُ قبلتَنا ؟! فكان صلى الله عليه وسلم يقلِّبُ وجهه في السماء ، من دون أن ينطق لسانُه بشيء ، أو يَدْعُ ربَّه بشيء , تأدباً مع الله ، وانتظاراً لفرجه وتوجيهه . فكان يُقلِّبُ وجهه في السَّماء شوقاً وترقُّباً لنزول جبريلَ عليه السلامُ بتحويلِ القبلةِ إلى الكعبةِ المُشرَّفةِ كلَّ لحظةٍ ! فوجَّهه الله سبحانه لِمَا تطمئِنُّ إليه نفسُه،ويحبُّها، ويقبلُها؛ والرسولُ صلى الله عليه وسلم قَبِل القبلةَ الأولى، ورضيَها ؛ لكنَّه أحبَّ أن يُحَوَّلَ إلى الكعبة. وهذه الاستجابةُ تدلُّكَ على شرفِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفضلِه ومكانته ! حيث إنَّ الله تعالى سارع في رضاه، وهذه الاستجابةُ كذلك تدلُّكَ على قُرب الصِّلةِ بين الخالق والمخلوق وأنَّه سبحانه رحيمٌ ودودٌ .
{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }
فصارتِ الكعبةُ قبلةً له ولأمته ومن معه ومن يأتي من بعده إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها و هكذا وحَّد الله هذه الأمةَ في إلهها ورسولها ودينها وقِبلَتِها . على اختلاف مواطنها وألوانها ولغاتِها! . فشعَرَ المسلمونَ أنَّهم جسمٌ واحد ، وكَيَانٌ واحد ، يتَّجهون لهدف واحد ، ويسعون لتحقيق منهجٍ واحد! حقاً المؤمنون كالجسد الواحد
نفعني الله وإيَّاكم بالقرآن العظيم وبهدي سيِّد المرسلين أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين ، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي اهتدى بفضله المهتدون، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يُسألُ عما يفعل وكلُّ الخلائق لديه مسئولون، ونشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله الصادق المأمون، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن على دربه سلك وعلى أثره مقتدون .
عباد الله : اعلموا يا رعاكم اللهُ أنَّه لا عزَّ لنا ولا فلاح إلا بإتباع سنةِ نبيِّنا محمدٍ ،
كما قال المولى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
عباد الله : وقصَّةُ تحويل القبلة تُجلِّي لنا حقيقةَ الإتباعِ للنَّبيِّ إذ آمن به أصحابُه وصدَّقوه أولاً وآخِراً قولا وعملا واعتقادا, وقسمٌ آخر انقلب على عقبيه فقد ارتدَّ بعضُ أصحابِ رسولِ ممن كان قد أسلم، وقالوا ما بالُ محمدٍ يحوِّلُنا مرةً هاهنا ومرةً هاهنا، قال الشيخ ابنُ العثيمينَ رحمه الله ومن فوائد آية تحويل القِبلة : وجوبُ إتباعِ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ والصحابةُ رضي الله عنهم اتبعوه في ذلك أشدَّ الإتباع: جاءهم رجلٌ وهم يصلون الفجر في قُباءٍ وهم ركوع، فقال: «إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الليلةَ القرآنَ، وقد أُمر أن يستقبلَ الكعبةَ فاستقبِلوها وكانت وجوههم إلى الشام؛ فاستداروا إلى الكعبة» وكذلك فعل بنو سَلِمةَ في مسجد القبلتين؛ هذا هو الإتباع العظيم؛ إذاً فإتباع الرسولِ واجبٌ؛ وإلاَّ لَمَا احتيج إلى محنة الناس عليه.
درس آخرُ من القصة :أنَّ السفهاءَ ديدنُهم ردُّ الحقِّ والتشكيكُ فيه وهذه صفاتُ اليهود والمشركين والمنافقين وأذنابِهم من العلمانيين وغيرهم الذين يكذِّبون نصوص الوحيين ويقلِّبون الحقائق ويعترضون على شرع الله لا يعجبهم شرع ولا يرغبوا بضوابطَ وقيمٍ ! حقَّاً إنَّهم سفهاءُ خفيفو العقل قال عنهم الشيخ السَّعديُّ رحمه الله الاعتراض على حكم الله وشرعه، إنِّما يقع ممن اتصف بالسَّفهِ، قليلُ العقل، والحلمِ، والديانةِ، فلا تبالوا بِهم، إذْ قد عُلم مصدرُ هذا الكلام، فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه، ولا يُلقي له ذهنَه, فإنه لا يعترض على أحكام الله، إلا سفيهٌ جاهل معاند، وأما الرشيدُ المؤمنُ العاقل، فيتلقَّى أحكامَ ربِّه بالقبول، والانقياد، والتَّسليم كما قال تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }
أيُّها الصائمون لله التالون لكتابه العزيز: من حِكمِ نسخِ القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام , أنَّ اليهود حين قالوا : وافقنا محمدٌ في قبلتنا فيوشك أن يوافقنا في ديننا، فقطع الله حجَّتَهم بتحويل القبلة حتى لا يفرحوا ولا يُأمِّلوا بإتباع دينهم الضال، ولِيُبَيِّنَ لهم سبحانه أنَّ دينَ محمد هو الدِّينُ الحقُّ الناسخُ لجميع الأديان، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا إذاً فموافقةُ الكفار والتَّشبهُ بِهم دليلٌ على المفسدة، ومخالفتُهم دليلٌ على المصلحة
ولهذا قطع الإسلامُ كلَّ نوعٍ من التَّشبُّه، وأغلق بابه. فقال : ((من تشبه بقوم فهو منهم)). وتأمَّل كان رسولُ الله إذا اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فتعرَّض له حَبْرٌ من اليهود فقال: هكذا نصنعُ يا محمد، قال الرَّاوي: فجلس رسولُ الله وقال: ((خالفوهم)) .
حتى قال اليهودُ ما ترك شيئا إلا خالفنا فيه محمدٌ وهذا درسٌ لكثيرٍ من المنهزمين الذين يقلّدون الغرب في كلِّ سافل وتافه من الأقوال والأفعال، فمخالفةُ اليهود والنصارى من صميم الدِّين، ومقصودٌ شارعاً ليتميَّزَ المسلمُ ظاهرًا وباطناً فالحمد لله أولاً وأخيرًا على نعمة الإسلام ،
في القصة يا مسلمون تذكيرٌ بمكانةِ قبلتنا الأولى ومسرى رسولنا والأرضِ المباركةِ فالمسجد الأقصى شأنُ المسلمين كُلِّهمم , فلِكلِّ مسلمٍ حقٌّ في الأرضِ المباركة، يقابِلُه واجِبُ النُّصرةِ بكلِّ صوَرِه وأشكاله , وقضيةُ فلسطينَ لا تنفصل عن قضيةِ الإسلامِ البتَّة, فهيَ تُفدى بالأرواح والمُهج. قال تعالى: وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنينَ فكن من أنصار دين الله تعالى وجنده المفلحين . فاللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء همومنا وأحزاننا، وذهاب غمومنا وهمومنا
اللهم ارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنّا
اللهم اجعلْه حجة لنا لا علينا اللهم ردنا إليك رداً جميلاً
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم اجعلنا من المقبولين في هذا الشهر الكريم , رضينا بالله رباً والإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً ورسولا
اللهم ارزقنا إتباعه ظاهرا وباطنا ياربَّ العالمين
عباد الله اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على عموم نعمه يزكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون
0
0
26.8K
05-24-1433 01:31 صباحًا