خطبة الجمعة 03-09-1431هـ بعنوان الأيام الأولى من رمضان
الحمد الله أنعم علينا بالإيمان، فرض علينا الصيام ، لنيل الرضا والرضوان، مِنَّةً مِن الملك الدَّيان، وتَهذيباً للنُّفوسِ وصحةً للأبدان، نشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له ذي الفضل والامتنان، ونشهد أنَّ سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، إمامُ العابدين وقدوةُ العاملين وسيِّدُ الصائمين , صلى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله الطاهرين وصحابته الغرِّ الميامين ومن تبعهم واقتفى أثرهم وسار على دربِهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيُّها المسلمون، اتقوا الله جلَّ وعلا، فبالتقوى تجتمعُ الخيرات، وتنال البركات، وتُفرجُ الهمومُ والكرباتُ.
مرحبًا بك يا رمضان، يا حبيبًا جئتنا على فاقةٍ وحاجةٍ، نحنُ أشدُّ ما نكونُ إليك الآن . جئتنا بعد عامٍ كاملٍ، وقد سَعِدَ قومٌ وشقيَ آخرون، واهتدى قومٌ وضلَّ آخرون, جئتنا وقد أثقلتنا الأوزارُ والذنوبُ !
فيا أيُّها الصائمُ
رمضـان أقبلَ قم بنـا يا صاح هـذا أوان تبـتُّـلٍ وصلاح
الكونُ مِعطـارٌ بطيـب قدومه رَوحٌ و ريحـانٌ ونفـحُ أقاحـي
واغنم ثوابَ صيـامِه وقيـامِه تسعـد بخيـرٍ دائـمٍ وفلاح
في الحديثِ عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه عن النبيِّ قال: ( افعلوا الخير دهرَكم، وتعرَّضُوا لنفحاتِ رحمةِ الله، فإنَّ لله نفحاتٍ من رحمتِهِ يُصيبُ بِها من يشاءُ من عباده )
أيُّها الصائمون ، في أيّام رمضانَ الأولى نهنِّئُ أنفسَنا والمسلمين ببلوغِ رمَضانَ ، جعَلَه الله مبَاركًا على أمَّةِ الإسلام , وأهلَّه الله علينا بالأمنِ والإيمان , والسلامَةِ والإسلام , والعِزِّ والنَّصرِ للمسلمين.
ها هو رمضان قد حلَّ، ووجهُ السَّعدِ قد طلَّ، رمضانُ كريمُ الفضائلِ، عظيمُ الهباتِ والنَّوَائلِ، جليلُ الفوائدِ والمكارم. أيامُ رمضانَ نفحاتُ الخيرِ ونسائمِ الرحمةِ والرضوانِ، رمضانُ منحةٌ ربَّانيةٌ وهبةٌ إلهيةٌ، فمَن مِنَ المسلمين من لا يعرِف فضلَ رمضانَ وقدرَه؟ أليس سيِّد الشهور وخيرَها؟ بلى واللهِ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وكفى!
في الحديث أنَّ رسول الله قال: ( الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبد، يقول الصيامُ: أي ربِّ، منعتُهُ الطعامَ والشرابَ فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: أي ربِّ، منعته النومَ فشفعني فيه، فيشفعان )
معاشر المؤمنين، رمضانُ شهرُ العفوِ والرحمةِ والغفرانِ، يقول : ( إذا جاء شهرُ رمضانَ، فُتِّحت أبوابُ السماء وفي رواية: - أبوابُ الجنة، وفي رواية: أبوابُ الرحمة، وغلِّقت أبوابُ جهنمَ، وسلسلتِ الشياطينُ ) أخرجه الشيخان
أعظم القرُبات في رمضانَ الصيامُ الذي افترضه الله علينا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وفي البخاري أنَّ رسول الله قال:يقول الربُّ: ( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدي بشَيءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيهِ )
أمَّا ثواب الصائمين فذاك أمرٌ مردُّه إلى الكريم الرحمان، قال النبيُّ : ( قال الله عزَّ وجلَّ: كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ له إلاَّ الصَّوم، فإنه لي وأنا أجزِي به، والصيامُ جُنَّةٌ، فإذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفث ولا يسخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَله فليقُل: إنِّي امرُؤ صائم. والذي نفس محمَّدٍ بيده، لخلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله يومَ القيامة من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرِح بفطره، وإذا لقيَ ربَّه فرح بصومه )
شهرُ رمضانَ شهرُ القيام والتراويحِ والذِّكر والتَّسابيحِ، فاعمُروه بالصلاةِ والدُّعاء وقراءةِ القرآن، فقد كان جبريلُ عليه السلام يلقى النبيَّ في كلِّ ليلة فيدارِسُه القرآن .
( ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه ) و( من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة ) فالهَجوا يا رعاكُم الله بذِكرِ ربِّكم، ورَطِّبوا ألسِنَتكم بتلاوةِ كِتابِه، فبهِ تزكوا نفوسُكم وتنشرِحُ صُّدوركم وتعظُم أجوركم.
أيّها الصائمون: شهرُ رمضانَ شهرُ الجود والإنفاق ،فقد كان النبيُّ أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكونُ في رمضانَ حيث يلقاه جبريلُ فيدارسُه القرآنَ، فلرسولُ الله حين يلقَاه جبريلُ أجودُ بالخيرِ من الرِّيح المرسلة. فمن جادَ على عبادِ الله جادَ الله عليه.
واليومَ وقد جُفِّفَت كثيرٌ مِن منابع العطاءِ ! فمَن لإخواننا الفقراءِ والمساكين واليتامى والمشردين ؟! مَن لشعوبٍ مسلمةٍ قهَرَتْها الخُطوبُ وأوهَنَتها الحروبُ، مَن لشعوبٍ مسلمةٍ جرفتها الفيضاناتُ المغرقةُ وأهلكت حرثها ونسلها ! ألم تسمعوا وتشاهدوا ما يحدثُ لإخواننا في الباكستان هذه الأيامِ أكثرُ من مائة ألف غريق , وعشرين مليونَ مُشرَّد, ولا مجيبَ ولا مُنفقٍ ! إلا من وفقه ربي! إنَّهم إخوانٌ لكم في الدِّين مَن لهم بعدَ الله إلاَّ أنتم؟! فهل نتَّخِذُ من هذا الشهرِ الكريم تجديدًا للبِرِّ والإحسان؟!
فيا مَن أفاء الله عليه ، إنَّ الله هو الذي يعطِي ويمنَع ويخفِض ويرفَع، وهو الذي استخلَفَكم فيما رزقَكم لينظرَ كيف تعملون، والمؤمِنُ في ظِلِّ صدقته يومَ القيامة، ولن تَعدِمَ مَن تَثِقُ به وبدينه ! أو جهاتٍ إغاثيةٍ موثوقَةٍ تعينُك. وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي شرَّفنا بالقرآنِ المجيد، وقوَّمَ به النُّفوسَ بين الوعد والوعيد، نحمده على ما تفضَّل به من مواسم الخير والمزيد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغنيُّ الحميد، ونشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى الجنَّة والتوحيد، صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يوم المزيد .
أمَّا بعد: فيا أيُّها المسلمون، اتقوا الله جلَّ وعلا، فبالتقوى يصلح العمل، ويُغفر الزَّلل.
يحسن بنا ونحن في شهر القرآنِ والصيامِ أنْ نتأمَّلَ ونقفَ مع كلام الله تعالى بهذا الشأن فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
أيُّها الصائمون، وقفتنا الأولى: أنَّ المتأمِّلَ في آيات الصيام يجد ولأول وهلةٍ أنَّ التعقيبَ بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قد تكرر في أكثرَ من موضعٍ، وهذا دليلٌ على أنَّ الصيامَ من أعظم العبادات الجالبةِ للتقوى!
قال الشيخُ السَّعديُّ رحمه الله : حكمةُ مشروعية الصيام قوله:{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإنَّ الصيامَ من أكبرِ أسبابِ التَّقوى، لأنَّ فيه امتثالَ أمرِ الله واجتنابَ نَهيِهِ. فمما اشتمل عليه من التقوى: أنَّ الصائم يتركُ ما حرَّم اللهُ عليه مما تميل إليها نفسُه، مُتقربا بذلك إلى الله، راجيا بتركها، ثوابَه، فهذا من التَّقوى.
ومنها: أنَّ الصائم يُدرِّبُ نفسَه على مراقبة الله تعالى، فيتركُ ما تَهوى نفسُه، مع قدرتِه عليه، لعلمه باطِّلاعِ الله عليه وهذا من التَّقوى ، ومنها: أنَّ الصيام يُضيِّقُ مجاري الشيطان، فضعفُ نفوذُه، وتقلُّ من العبِد المعاصي وهذا من التقوى ، ومنها: أنَّ الصائمَ تكثرُ طاعتُه، والطاعاتُ من خصال التقوى، ومنها: أنَّ الغنيَّ إذا ذاق ألم الجوع، أوجبَ له ذلك، مواساةَ الفقراء والْمُعدمين، وهذا من خصال التقوى. انتهى كلامه رحمه الله.
الوقفة الثانية: قولُه تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ أي قليلةً في غايةِ السُّهولة وهذا من رحمة الله بعباده ، فليس فريضةَ العمر وتكليف الدهر، ومع هذا أعفى من أدائه المرضى حتى يَصِحُّوا، والمسافرونَ حتى يقيموا رحمةً منه وتيسيرا.
الوقفة الثالثة: قال تعالى في ثنايا آيات الصيام: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ
فرمضان شهر القرآن. قال الإمامُ الزهريُّ رحمه الله: "إذا دخل رمضانُ إنما هو تلاوةُ القرآن وإطعامُ الطعام"
فحريٌّ بك أيُّها الصائم أن تجعلَ لك وردًا من كتاب الله تتأمل فيه، وتتلوه حقَّ تلاوته! تُحرِّكُ به قلبَك، وتُدرُّ به دمعك، وتغيِّرُ به حياتَك، فاتلُ بتمعّن وتدبر.
كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ مُبَـٰرَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ٱلألْبَـٰبِ
الوقفة الرابعة: ومما جاء في آيات الصيام قولُه تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فكلُّ من أدركَ رمضانَ وهو قادرٌ على صومه وجبَ عليه الصوم، فيمسك عن سائر المفطِّرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، مُتعبدًا لله عز وجل بذلك، فمن تناول شيئا من المفطِّرات مختارًا غير مُكرهٍ ذاكرًا غير ناسٍ عالمًا غير جاهل لم يصحَّ صومُه.
الوقفة الخامسة: وتأمَّلوا قولَ اللهِ تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي لقد جاءت هذه البُشرى في ثنايا آيات الصيام، فيا لها من آيةٍ عجيبة، آيةٍ تجعلُ في قلبِ المؤمنِ طمأنينةً وراحةً وأنسا،
فيا صائمون ، اعرضوا حاجاتِكم على مولاكم ، واستكثِروا مِن الدَّعوات الطيِّباتِ في شهر النّفحات، لأنفسكم وذويكم، وتوسَّلوا إلى الله بألوانِ الطَّاعة، وارفَعوا أكفَّ الضّراعة، فإنَّ النبيَّ يقول: ( إنَّ للصّائم عند فطرِه لدعوةً ما تردُّ )
وقفتنا الأخيرةِ : قولُه تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ
وقال الشيخُ السَّعديُّ رحمه الله : أي: يريد الله تعالى أن يُيَسِّرَ عليكم الطرق الموصلةَ إلى رضوانه أعظمَ تيسير، ويُسهلَها أشدَّ تسهيل، ولهذا كان جميعُ ما أمرَ الله به عبادَه في غاية السهولة في أصله. وإذا حصلت بعضُ العوارضِ الموجبةِ لِثِقَلِهِ، سهَّله تسهيلا آخر، إما بإسقاطه، أو تخفيفه بأنواع التَّخفيفات. انتهى
فالحمدُ لله ثمَّ الحمد لله على ما شرع ويسَّرَ وهدى.
فاللهم وكما بلغتنا رمضان فأعنَّا على صيامه وقيامه إيمانا واحتسابا .
اللهم اجعلنا فيه من المقبولين ومن عتقائك من النار ياربَّ العالمين .
اللهم ارحم ضعف إخواننا في الباكستان كن لهم ناصرا ومعينا
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً.
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع وعين لا تدمع ودعوة لا تسمع.
اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله , اذكروا الله العظيم الجليل الكريم يذكركم واشكروه على عموم نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
0
0
18.0K
05-24-1433 01:27 صباحًا