خطبة الجمعة 18-08-1431هـ بعنوان ابن سعدي علم وعمل وتأريخ مجيد
الحمدُ لله المتفرد بالعز والبقاء , نحمده سبحانه على الشدَّةِ والرخاء , ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا نِدَّ له ولا شركاء , ونشهدُ أنَّ محمدا عبد الله ورسوله إمام الحنفاء ,صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى صحابته الأتقياء ومن تبعهم بإحسانٍ وإيمانٍ مادامت الأرض والسماء ,
أما بعد :
عباد الله : فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في العلن والخفاء فبها الفوزُ والنَّجاء ,
عباد الله : لقد أكرمنا الله بأفواجٍ من العلماءِ الرَّبانينَ فجعلهم ورثةَ الأنبياء وخيرَ الأولياء (وَإنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ ، وَإنَّ الأنْبِيَاءَ لَمْ يَوَرِّثُوا دِينَاراً وَلاَ دِرْهَماً وَإنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بحَظٍّ وَافِرٍ ) .
وإنَّ الحديث عن العلماء يثيرُ فينا كوامنَ المحبةِ والإجلال , كيف لا يكونونَ كذلك وقد رفع الله شأنَهم وأعلى قدرَهم (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )
عباد الله : وإنِّي أتحدث إليكم عن عالم أسرَ القلوبَ بحبِّه وإجلالِه , وبلطفه وإحسانه , توفَّى اللهُ هذا العالمَ قبل خمسٍ وخمسينَ عاماً تقريبا ولا زالت ذكراه في القلوب عالقةً, وسيرتُه تُطرا ليل نهار !
بل لازالت تعقدُ لأجله النَّدواتُ واللقاءاتُ , للتعرف على جوانب سيرته ,وسرِّ محبة الناس له, وإقبالهم عليه !
ولقد كان لمؤسسةِ الشيخِ محمدِ بنِ العُثيمينَ الخيريةِ رحمه الله. بصمةٌ غراءُ حين أطلقوا على بلدتنا أنَّها مدينة العلم والعلماء! وحقَّ لهم ذلك فقد أكَّدوا ذلك حين أعلنوا عن تدارس سيرة هذا العلم ! فسار رُبَّانُ المحاضرة وقائدُها بعرضِ سيرة هذا العالم ومشائِخه وتلامذته وأعماله وإنجازاتِه مما أكدَّ أنَّنا بحقٍّ في مدينة العلم والعلماء .
أيُّها الكرام : عالمنا له فضل عظيمٌ على البلاد الإسلامية عموما وعلى بلدتنا خصوصا , دَرَسَ على أيدي علماءَ أجلاء وخرَّج لنا علماءَ أفاضل وطلبةَ علم كثر وقضاةً ودعاةً ومصلحين .
هو أبو عبدِ الله عبدُ الرحمن بنُ ناصرٍ السَّعديِّ رحمه الله تعالى تربَّى يتيما ولكنَّ الله حفظه ورعاه امتاز بشدَّة حرصه على طلبِ العلم منذُ صغره , أفنى شبابَه بتلقِّي العلومِ والمعارف أخذ من كلِّ زهرةٍ رحيقا, ولمَّا بلغَ ثلاثةً وعشرين عاما جلس للتدريس حتى نشر في بلدتنا العلم والأخلاق والمعرفة , فتوافد الناسُ إليه وصار مرجع الفُتا والشُّورى إليه ,
كان الشيخ السَّعديُّ رحمه الله ذا خلق فاضل وأدبٍ جمٍّ رفيع مع الصغير والكبير , والغنيِّ والفقير كان لا يتكلَّف حياتَه ,ويكثرُ الجلوسَ مع عامَّة الناس ولا يردُّ دعوةَ أحدٍ بل كان يحضر المناسباتِ الطُّلابيةَِ ويستمعُ إلى أنشطتهم ومشاركاتِهم وأشعارهم !
عُرف رحمه الله برفقه ولطفه بالعلماءِ وطلبة العلم المخالفينَ لهُ فلم يكن يُعنِّف ولا يزدري أحدا إنَّما كان يناقشُ الدليل ويدورُ معه وجودا وعدما .
ربَّى مَن حوله على أخذِ الأمورِ بالرِّفق والتَّيسيرِ لأنَّ الله جل وعلى أقام الدِّينَ على اليُسر
( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) كان يتمثَّلُ بأعماله قبل كتاباته وأقواله:قولَ النبي صلى الله عليه وسلم ( إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مَيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ )
عباد الله : هكذا تمثَّل الإمامُ السَّعديُّ رحمه الله هذا الخلقَ . ولا يعني ذلك أنَّ الشيخ كان مُتساهلا في أحكامِ الدين أو أنَّه كان يتغاضى عن المُنكرات ويسمح بها ,
كلا وربي فقد كان يُناصحُ الأمراءَ وعامةَ النَّاسِ ويكاتِبهم ويخاطبهم ويحذِّر من المنكرات ويسعى بنفسه لإزالتها أيَّا كان نوعها ,
نعم لقد أعطاه الله حكمة وأسلوبا جعلت دعوتَه مقبولةً وكلماتِه مسموعةً, فقد كان رحمه الله ناصحا صادقا , محبِّا وفيَّاً للآخرين, وهذا هو سرُّ حبِّ الناسِ له وإعجابِهم به ,
خذوا على سبيل المثال حين انتشر الدُّخانُ في ذاك الزمن وكثُر مُهربوه والمتَّجرونَ به صار يحذِّر منه ويحاربُه ويُناصحُ المدخنين بأعذبِ أسلوب وأجمل عبارة فلم يكن مُقرَّا له أو ساكتا عنه! بل ألّف رسالةً مطوَّلةً في حكم الدُّخان فقال : أمَّا الدُّخانُ فشربُهُ والاتِّجارُ به والإعانةُ على ذلك حرام لا يحلُّ لمسلم تعاطيَه شُربا واستعمالا واتِّجارا وعلى كلِّ من يتعاطاه أن يتوبَ إلى الله توبةً نصوحا , ثم عدَّد أضراره الدينيةََ والبدنيةََ والماليةََ وقال : ولمَّا كان الدُّخانُ بهذه المثابة مُضرَّاً بالدِّين والبدن والمال كانت التجارةُ فيه محرمةً وتجارتُه بائدةً غيرَ رابحةٍ وقد شاهد الناس أنَّ كل متَّجر فيه وإنْ َنَمَا في وقتٍ فإنِّه يُبتلى بالقِلَّة في آخر أمره وتكونُ عواقِبُهُ وخيمةٌ. انتهى كلامه رحمه الله
وهنا دعوةٌ ولفتةٌ لإخواننا المُبتلَين بالدُّخان أنَّنا على أبوابِ رمضانَ فاستعينوا بالله ولا تعجزوا, وقاطعوا هذا الوباء الخطير ! عصم الله الجميع من كلِّ شر ومكروه
والله يقول : ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ )
رحم الله الشيخ السَّعدي وأسكنه فسيح جنَّاته وجمعنا في جنات النَّعيم مع الذين أنعم اللهُ عليهم (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا )
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي علَّم بالقلم علَّم الإنسان ما لم يعلم , أحمده سبحانه على ما أولى وأنعم وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الأعزُّ الأكرم , وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله صاحبُ الخلق الأعظم , صلَّى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلَّم أما بعد : فاتقوا الله عباد الله وتفقَّهوا في دين الله وتعلَّموا العلم (فمَنْ سَلَكَ طَريقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَريقاً إِلَى الجَنَّةِ ) أيُّها الكرام : لقد أدرك الشيخ السَّعديُّ رحمه الله أنَّه لن يسعَ الناسَ بماله بل بأخلاقه العالية , فكان يتمثَّل قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم(إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ ) ألا ما أحوجنا إلى التحلِّي بالأخلاق الفاضلة والآداب العالية كما كان عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم وسلفُ الأمة وأخيارها,
عباد الله , لقد تميَّز الشيخ السَّعديُّ رحمه الله بسعة أفقه ومعرفة واقعه فكان ذا صلة وإطلاع بمتابعة أحوال المسلمينَ في كلِّ مكان, مع ضعف الإمكانات وقلة الاتصالات , فكان يعيشُ همومَ الأمة ويعرف أحوالَها ويسبرُ أغوارها. بل كان يتنبأُ في الأمور المستقبلية ويرصُدُها! ويُبيِّنُ حكم الشرع فيها ! خذوا على سبيل المثال : قبل ما يقاربُ الستين سنة كان يحذِّر من المدارس الأجنبية المنحرفة فكان يقول ( أيُّها الناس احذروا أعداء الإسلام فإنِّهم لا يزالون يبغون لكم الغوائل وينصبون لإضلالكم المصائد والحبائل فأعظم حبائلهم مدارسُهم التي لم تؤسس إلا لإضلال الناس ولا بُنيت إلا لإفساد العقائد والأخلاق فبئسَ الأساسُ ) ومثالٌ آخر ما أصدره من فتوى جواز نقل الأعضاء عند الحاجة مع أنَّ النَّاس لا تكاد تعرف ذلك الوقتِ المستشفيات فضلاً عن إجراء العمليات ! وكان الشيخ رحمه الله يحثُّ على التَّوسُّطِ والاعتدال باستعمال العلاجات فيقول ( راعوا رحمكم الله صحة أبدانِكم وقلوبِكم براحةِ القلب وحسن الغذاء واستعملوا النظافة والرياضة تسلموا من كثير من الأدواء ) حقَّاً إنِّه فريدُ عصره وموسوعةُ زمانه ! عباد الله: لقد تميَّز الشيخ السَّعديُّ رحمه الله بأسلوبه الجذاب وخطابه الصادق فقد كان خطيبا مُقنعا , وناصحا مُشفقا ,لا يدع شاردة ولا واردة إلا نصح بها وأبان حكمَهَا لا كما يردِّدُ بعض الناس من أنَّ الشيخ لم يعنِّف على بعض المعاملات الربويةِ التي كانت في عهده كلا وربي فلقد نصح وأخلص ببيان الحلال والحرام عبر الخطب والدروس والمواعظ!
من أسرار الشيخ زهدُه وعبادته وحبُّه لنفع الناس بلا مقابل فقد كان يشرف على المعهد العلمي بالمجَّان , ويقوم بالإصلاح بين الناس , كما رفض أن يتولَّى القضاء .
لقد كان الشيخ إماما في النصيحة والتوجيه . فقد أوضح الأحكامَ العقدية والمسائل الفقهية والآداب الاجتماعية والنظرة المستقبلية بما أعطاه الله من نور وبصيرة ورويِّة .
هكذا عباد الله كانت حياة الشيخ السعديِّ رحمه الله تزخر بالأخلاق العالية والنصائح الصادقة والتوجيهات الأبوية الكريمة فهو مُيَسِّرٌ على الناس لا متساهلٌ في أحكام دين الله تعالى , وإننا في هذا الزَّمن بحاجةٍ إلى إبراز مدرسة الشيخ السَّعديِّ رحمه الله تعالى ومنهجِه المتوسط المعتدل في الفتوى التي اعتمادها على الدليل والتَّقوى ! في ظلِّ فوضى الفتاوى والتَّخبُّطات فيها! فرحم الله الشيخ رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته فقد أسَرَ قلوب محبيه وأتباعه وما ذاك إلا لفضل علم وخلق وتقى (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)
فاللهم اجزه عنّا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء , للهم ارفع درجته في عليين , اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين , اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأخلاق والأعمال لا يهدي إلى أحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئاتنا لا يصرف سيئها إلا أنت يارب العالمين ,اللهم واجعل مستقبلنا خيرا من ماضينا اللهم وفقنا لاغتنامِ الأوقاتِ بفعلِ الصالحات , رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ, عباد الله ومن كان عليه أيامٌ من رمضانَ الماضي فليبادر بقضائِها من الآن, ومن كانت لأخيه مظلمةٌ أو حقٌ فليؤدِّها قبل ألاّ َيكونَ دِرهمٌ ولا دِينار ٌ ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ )
0
0
1.6K
05-24-1433 01:22 صباحًا