خطبة الجمعة 14-06-1431هـ بعنوان صلاة الاستخارة
الحمدُ لله شرحَ صُدُورَنا بالإسلام، وهدى بصائِرَنا بالقرآن ، أجزَلَ العطايا وأسبغَ النِّعَم، رفَعَ البلايا و دفع النِّقم، يعلَمُ الخفايا وما في الظُّلم، أمرنا بالاستعانةِ بالصبر والصلاة، على متاعب ومشاقِّ الحياةِ , نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ الأرض والسماواتِ ، ونشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدا عبدُ الله ورسولهُ ، سارعَ إلى الصَّلاة بسكينة ووقار، ووقف بين يدي ربِّهِ بمحبةٍ وخضوعٍ وانكسارٍ، صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه الأخيارِ ما تعاقب ليلٌ ونهار,
أما بعد: خيرُ الوصايا تقوى اللهِ تعالى ، فاتقوا الله جميعًا أيُّها المؤمنون لعلكم تفلحون.
أيُّها الكرام الإنسانُ مهما نَضُجَ عقلُه فإنِّه ضعيفُ الفِكرِ، قاصرُ النظر، لا يعلمُ الغيب، وقد يرى ما يظنُّه نافعاً له فتكونُ عاقبةُ أمره سوءًا ، وربَّما كان العكسُ كذلك، وصدقَ المولى وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ .
رُبَّ أمـرٍ تتَّـقيـه جرَّ أمراً ترتضِيه
خفيَ المَحبُوبُ منه وبدا المكروهُ فيهِ
عباد الله: والإنسانُ يتعرَّضُ في حياته اليوميةِ لكثيرٍ من الأمور الغيبيةِ ، ويُقْدِمُ على أمورٍ مجهولةِ العواقب, لا يدري خيرَها من شَرِّها ونَفْعَها من ضَرِّها ، فيقعُ في حيرةٍ من أمره ، أيُقدم على هذا العمل أم لا ؟ أيخطبُ تلكَ المرأةِ أم لا؟أيدرُسُ هنا أوهناك ؟ أيشتري تلكَ البضاعةِ أم لا ؟وغيرها من المشاغلِ والهموم.
فتراه يعيشُ في حالةٍ من الصِّراع و يقعُ أسيرَ الخوفِ والقلقِ , ويصيبُه الهمُّ و الغمُّ ، فلا يدري ماذا يصنع؟ وكيف يخطوا ؟ فالحمدُ لله الذي جعل لنا ملجأ آمِناً , وأوانا إلى ركنٍ شديد وحصنٍ مكين، به نرشُد ونَهتدي ، ونسعدُ ونقتدي, كما كان إمامُنا وقدوتنا أنَّه إذا حَزَبَهُ أمرٌ ولم يتبيَّن لهُ شيءٌ لجأَ إلى صلاةٍ ليست بمفروضةٍ ولا راتبةٍ ، بل متى ما وُجِدَ سَبَبُها وُجِدت تلكَ الصلاةُ ، إنِّها صلاة الاستخارة.
وكم جُرِّبت هذه الصلاةُ فَوُجِدَ فيها الخيرُ الذي لا يُدرِكُهُ العقلُ ، ولم يكن بالْحُسبان ، فالحمدُ لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وهذه الصلاةُ عباد الله مع مَسِيسِ حاجتِها , وعظيمِ نفعها , إلاَّ أنَّنا نغفُلُ عنها ونجهلُ كثيرا من أحكامِها ! فما هذه الصلاةُ ؟ وما حُكمُها وحِكَمُها ؟ وكيف تؤدَّى ومتى ؟ وما دعاؤها الواردُ ؟وما المفاهيمُ الواجبُ بيانُها ومعرفتُها ؟
الاستخارة: هي طلبُ خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدِهما.
وهي سُنَّةٌ مؤكَّدة ٌوَدَلِيلُها مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رحمه اللهُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّه ِ يُعَلِّمُنَا الاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ : إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ , وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ , وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ , وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ , اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ : عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ , فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ , اللَّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ : عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أرضني بِهِ . وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ )
عباد الله، لقد كان يعلِّمُ أصحابَه رضي الله عنهم هذه الصلاةَ وهذا الدعاءَ لعلمِه بحاجتِهم لها ، ولأنَّها يحتاجها العبدُ في أمورِه كلِّها. وتفعلُ في كلِّ وقتٍ وحين إلا أوقاتَ النَّهي كما قرَّرذلك العلماءُ.
أيُّها الكرامُ: متى يحتاجُ المسلمُ إلى صلاة الاستخارة ؟
يحتاجها حينما تعرِضُ له أمورٌ يتحيَّرُ منها وتُشكِلُ عليه ، فعندما يُقدم ويعزمُ مثلا على عملٍ ما كشراءِ سيارةِ ، أو زواجٍ من فلانةٍ , أو أن يعملَ بوظيفةٍ معينةٍ أو يريدُ سفراً معيَّناً فإنِّه يستخيرُ اللهََ تعالى .
ويلجأ إليه سبحانه ، يسأله رافعاً يديه داعياً مستخيراً بالدعاء ، راجياً الصَّوابَ في الطَّلبِ ، فإنَّه أدعى للطمأنينة وراحة البال .
قال: شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: ما ندم من استخار الخالقَ ، وشاورَ المخلوقين ، وثَبَتَ في أمره . وقد قال سبحانه وتعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )
وسؤالٌ آخر كيف تُصلي صلاةُ الاستخارةِ ؟
فأولاً: توضأ وضوءك للصلاة . ثمَّ لابدَّ من نيةٍ لتلك الصلاة قبلَ الشُّروعِ فيها . وأنْ تصليَ ركعتينِ وتقرأَ ما تيسَّر من القرآن وتسلِّمَ من صلاتك . وبعد السَّلامِ ترفعُ يديكَ مُتضرعا ً إلى الله مُستحضرا ً عَظَمَتَهُ وقدرتَه ومُتَدبِّرا الدعاء وفي أول الدعاء تحمدُ وتثني عليه ثم تُصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلَّم,
ثمَّ تقولُ دعاءَ الاستخارةِ: ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ... إلى آخر الدعاء .
فإذا وَصِلتَ عند قولِك : ( اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ هنا تُسمي مرادَك فمثلا : اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ سفري إلى بلد كذا أو شراءِ سيارة كذا أو زواجي من بنتِ فلان خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ . وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أرضني بِهِ. ثمَّ تُصلي على النبيِّ صلى الله عليه وسلَّم . والآن انتهيتَ من صلاتِك تاركا ً أمرَكَ إلى الله متوكلا ً عليه .
ولكنَّ الإشكالَ الذي يُوردُه أكثرُ الناس: كيف أعرفُ ما الذي اختاره لي ربي؟
والجوابُ عن ذلك تعرفه بعد قليلٍ إن شاء الله ، نسأل الله تعالى أنْ يوفقنا لكلِّ خيرٍ وأن يرزقَنَا حسن التوكل عليه في كلِّ أمر .
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كلِّ ذنبٍّ فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله الذي جعل الصلاةَ راحةَ قلوبِ الأخيار، وطريقَ السعادة في دار القرار، أحمده سبحانه وأشكره، جعل الجنة مأوى الذين اتقوا ومثوى الكافرين النَّار. نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،شهادةً نرجوا بِها النجاة من النَّار, ونشهد أنَّ محمدا عبد الله ورسوله المصطفى المختار , صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه المهاجرين منهم والأنصار ,ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم القرار.
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله وتعلموا أحكامَ دين الله تعالى لتعبدوا الله على علم وبصيرة ,
والسؤال القائم كيف أعرفُ ما الذي اختاره لي ربي؟
فهل سيُرسِلُ الله إليَّ رسولاً ؟ كلا فإنَّ الرسالات قد خُتمت.
إذاً هل سيوحي إليَّ ربي شيئا ؟ كلا فإنَّ الوحي قد انقطع. فهل يا ترى سأرى في المنام رؤيا ؟
إخواني كلُّ تلكَ مَزَاعِمُ لا دليل عليها ! إذاً ماذا يفعل المستخيرُ ؟ قال العلماءُ إذا صلَّى المسلِمُ ركعتي الاستخارة فليفعل بعدها ما بدا له وعزم عليه سواءٌ انشرحت له نفسُه أم لا، فإنَّ الخيرَ فيه وإنْ لم تنشرح له نفسه، فليس في الأحاديثِ ما يدلُّ على اشتراط انشراح النفس"
إذاً الاستخارةُ توكُّلٌ على الله قبل الفعل , ورضاً بعد الفعل,وامضِ لِما عقدتَّ العزمَ عليه , وبعدها سلِّم تسليما كاملاً بما يختارُه الله لك واجزم بيقينٍ أنَّ ما يُقدِّره الله لك هو خيرُ الخيرين في الدَّارين عاجلاً أم آجلاً ! وهذا تمامُ العبوديةِ والتَّسليمِ لله تعالى. ذلك لأنَّ الاستخارةَ تُحقُِّق التوحيدَ، وتنبذُ الشِّركَ والخُرافةَ. وهي عبادةٌ في نفسِها، فهي صلاةٌ ودعاء، واللهُ يقولُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } والنبيُّ يقول: ((واعلموا أنَّ خيرَ أعمالِكم الصلاةُ))، وقال : ((الدعاءُ هو العبادة)). وفي الحديث أنَّ رسول الله قال: ((مِن سعادةِ ابنِ آدمَ استخارتُه اللهَ))،
عباد الله: ومن أحكام الاستخارةِ أنَّ الأمورَ الواجبةَ كالصلاةِ والمندوبةَ كالصَّدقات لا يُستخار لها . بل يبادرُ بعملها. وكذا الأمورَ المحرَّمةَ كشربِ الخمور والمكروهةَ كلغو الكلامِ لا يُستخار لها بل يبادر بتركها,
إنما الاستخارةُ لأعمالٍ مجهولةِ النتائجِ كزواجٍ وشراكةٍ وسفرٍ وتجارةٍ وما جرى مجراها فهي مجالٌ للاستخارة .
عباد الله، والاستخارةُ دليلٌ على تعلُّق قلب المؤمن بالله في سائر أحواله، الاستخارةُ تجعل المؤمنَ واثقًا من نصر الله له، في الاستخارة تعظيمٌ لله وثناءٌٌ عليه، الاستخارة مخرجٌ من الحيرةِ والشكوك والأوهام، حقَّا إنَّها مدعاة للطمأنينةِ وراحة البال، يكفي شرفا في الاستخارةِ أنَّها امتثالٌ للسنَّة النَّبويِّةِ وتطبيقٌ لها.
عباد الله،ومن المعلوم أنَّ أفضل العمل أن تجمع مع الاستخارةِ الاستشارةَ، فإنَّ ذلك من كمالِ الامتثال بالسنة، وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ , قال أحد السلف: "من حقِّ العاقل أن يُضيف إلى رأيه آراءَ العلماء، ويجمعَ إلى عقلِه عقولَ الحُكماء، فالرأيُ الفذُّ ربما زلَّ، والعقلُ الفرد ربما ضلّ". وقال بعضهم: "ما خاب من استخار، وما ندم من استشار"، ويقال: "من أعطي أربعًا لم يمنع أربعًا: من أعطيَ الشُّكرَ لم يُمنعِ المزيدَ، ومن أعطيَ التوبةَ لم يمنع القبول، ومن أعطيَ الاستخارةَ لم يمنعِ الخيرة، ومن أعطيَ المشورة لم يمنع الصواب".
هذا وصلُّوا وسلِّموا على نبيِ الهدى والرَّحمةِ فمن صلَّى عليه واحدةً صلى الله عليه بها عشرا
فاللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين
اللهم ارزقنا إتباعه ظاهرا وباطنا اللهم احشرنا في زمرته والسيرَ على سنَّته ياربَّ العالمين
اللهم إنا نعوذُ بكَ من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ياربَّ العالمين
اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأقوال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنَّا سيئها لا يصرف عنَّا سيئها إلا أنت ياربَّ العالمين
اللهم أرنا الحقَ حقًا وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
عباد الله إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
0
0
8.7K
05-24-1433 01:10 صباحًا