رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا 27/10/1446هـ
الحمدُ لله وَسِعَ كُلَّ شيءٍ رَحْمَةً وعِلمًا، أَشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحده لا شريكَ لَهُ, وَأشهدُ أنَّ محمَّدَاً عبدُ الله ورسولُهُ بَعَثَهُ ربُّهُ رَحْمَةً وهُدىً، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومن بِهُداهمُ اهتدى. أمَّا بعدُ: فاتَّقوا الله عبادَ اللهِ، واستجلِبوا رحمتَه بِتقَواهُ: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ .
عبادَ الله: رَبُّنا هُوَ أَرحَمُ الرَّاحِمينَ، وَخَيرُ الرَّاحِمِينَ، سُبْحَانَكَ: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ .وَلَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ، كَتَبَ فَوْقَ عَرْشِهِ: "إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي".
عِبَادَ اللهِ: والنَّاسُ فيما بينَهُم على اختِلافِ أعْمَارِهِمْ وَجِنْسِيَّاتِهِمْ يَحتاجُونَ إلى رَحْمَةٍ تَمنَحُهم أمْنَاً، وَهُمْ كَذَلِكَ بِحاجَةٍ إلى قُلُوبٍ كَبِيرَةٍ، تَحملُ هُمُومَهُم، وَتَسعى لِمَصَالِحِهم, ولن تتأتَّى هذه الخصالُ إلا لِمَن يَتَمَثَّلُ بِالرَّحْمَةِ قولاً وَعَمَلاً وَمَنهَجَاً! لَذَا قَالَ رَسُولُنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ». فاللهُمَّ اجْعَلْنَا مِن عِبَادِكَ الرُّحَمَاءِ. إخْوانِي: إسْلامُنَا دَعَانا إلى التَّرَاحُمِ، بَلْ جَعَلَهُ مِن كَمَالِ الإيمانِ، فَقالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لن تُؤمِنُوا حتى تَرَاحَمُوا» قالوا: يا رسولَ اللهِ، كُلُّنا رَحِيمٌ، قالَ: «إنَّهُ لَيسَ بِرَحمَةِ أَحَدِكُم صَاحِبَهُ، وَلَكِنَّها رَحمَةُ العَامَّةِ». وَالْمُؤْمِنُونَ كَالجَسَدِ الوَاحِدِ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ.
عِبَادَ اللهِ: رَسُولُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِأنَّهُ نَبِيُّ الرَّحمَةِ للعَـالَمِينَ, وَصَدَقَ الْمَولَى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ . فَكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُعطِي أصحابَهُ دُرُوسَاً عملِيَّةً في الرَّحمةِ, فَكانَ يَدخُلُ في الصَّلاةِ يُريدُ إطالتَها فَيسمَعُ بُكاءَ الصَّبِيِّ، فَيَتَجَوَّزُ فِيها رَحمةً بِأمِّهِ! وَفِي يَومِ رُفِعَ إِلَيْهِ صَبِيٌّ يُصَارِعُهُ الْمَوْتُ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: مَا هَذَا؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ». وبعدَ غزوةٍ إسلامِيَّةٍ: قُدِّمَ لِرَسُولِ اللهِ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ سَبْيٌ, وإِذْ بامْرَأَةٍ مِنَ السَّبْيِ ، تَبحثُ عن ابنٍ لها، فُجِعَتْ بِفَقْدِهِ, فَإِذَا هيَ تَجِدُهُ فِي السَّبْيِ، فَأَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَلَمَّا رأى رَسُولُ اللهِ هذا الْمَنظَرَ الْمُؤَثِّرَ قالَ لأصحابِهِ: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟» قالوا: لَا يا رسولَ اللهِ، فَقَالَ: «لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا». حَقَّاً: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ». وَسُبْحَانَ اللهِ: كُلَّما كانَ الإيمانُ أتَمَّ, كانتِ الرَّحمةُ أَوْسَعَ، فَلا تَقْصِرْ رَحْمَتَكَ على مَنْ تَعرِفُ أَو تُحِبُّ، وَلَكِنَّها رَحمَةٌ عَامَّةٌ تَسَعُ الخَلقَ كُلَّهُم، مُؤمِنَهم وَكَافِرَهم، بَرَّهم وَفَاجِرَهُم, حتى البَهَائِمَ تُدخِلُكَ النَّارَ أوِ الجنَّةَ بِرَحمَتِكَ بِها, أو تَعذِيبِكَ إيَّاها! فَالَّلهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّحِمِينَ, أقُولُ مَا سَمِعتُمْ وأستغْفِرُ لي وَلَكُمْ وَلِلمُؤمِنِينَ, فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبَةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ, أَشهَدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لهُ, وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عبدُ اللهِ ورسُولُهُ, صلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ, والتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإحْسَانٍ. عِبَادَ اللهِ: أَتُرِيدُونَ رَحمَةَ اللهِ؟ طَبِّقُوا هَذِهِ الآيَةَ يَقُولُ تَعَالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . أيُّها الْمُؤمِنُ: أَتُرِيدُ رَحمَةَ اللهِ تَعالى؟ تَذَكَّرْ قَولَ البَارِي: لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كُلَّمَا قَوِيَّ إيْمَانُكَ تَمَيَّزْتَ بِقلْبِ رَحِيمٍ، تَمُدُّ يَدَكَ لِلمُحْتَاجِ, وَتَنْفِرُ مِن الإِيذَاءِ، وَتَكرَهُ الْخِصَامَ والاعتِدَاءَ!
أيُّها الرَّاحِمُونَ: وأَولَى النَّاسِ بِرَحمَتِكَ وإحسَانِكَ, الوالِدانِ فَمَاَ أَحوَجَهُمَا إلى رَحمَتِكَ, خاصَّةً حالَ الكِبَرِ, وعند الْمَرَضِ, فَلا تُهمِلْهُمَا, ولا تَنْشَغِلْ عنهُما, أَكرِمْهُمَا وَردِّدْ: رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . ثُمَّ مِن بَعِدِهم أَولاَدُكَ وَبَنَاتُكَ, فقد كانَ رسُولُنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُقعِدُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ والحَسَنَ بنَ عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى فَخِذِهِ، ثُمَّ يَضُمُّهُمَا، ويَقُولُ: «اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمَا فَإِنِّي أَرْحَمُهُمَا» وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ». زَوجَتُكَ, وإِخوانُكَ, أَحوَجُ ما يَكُنُونَ إلى رَحْمَتِكَ وإحسَانِكَ, «وخَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ». وَأَحوجُ النَّاسِ إلى رَحْمَتِكَ مَنْ قَلَّدَكَ اللهُ أَمرَهُم مِن العُمَّالِ والْمُستَخدَمِينَ, فاستَمِعِ لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِيهُمُ حَيثُ قالَ: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» ومعنى(إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ)أي الذِينَ يُصلِحُونَ أُمُورَكُم.
عبادَ اللهِ: أَحسِنُوا إلى الْمُستَضعَفِينَ, واجْبُروا خَوَاطِرَهُم, واحذَرَوا: «فَمَنْ ضَرَبَ سَوْطًا ظُلْمًا اقْتُصَّ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»! أَمَّا الصِّغَارُ فَهُم مُحتَاجُونَ إلى رَحمَةٍ حانِيَةٍ، وقد قالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا».
عبادَ اللهِ: وَتعظُمُ الْحَاجَةُ لِلرَّحمَةِ بِأَهْلِ الذُّنُوبِ والْمَعَاصي! نَعَمْ نُبْغِضُ مَعْصِيَتَهُمْ ،مَعَ بَقَاءِ حُبِّهمْ بِقَدْرِ إيمَانِهِمْ، وَلْنِحْذَرْ مِنْ الشَّمَاتَةِ بِهِمْ! فَفِي حَدِيثٍ أَنَّ نَبِيَّنَا عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ قالَ: "لاَ تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَخِيكَ فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيكَ". وَالعُصَاةُ أحْوَجُ مَا يَكُونُونَ إلى الرِّفْقِ وَالنُّصْحِ والتَّوجِيهِ! فلا تَسْتَغْرِبْ هَذا فَقَدْ أُتِيَ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَكْرَانَ، فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ. فَمِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ وَمِنْهُمْ بِنَعْلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لاَ تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ».
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ رَحِمَكُمُ اللهُ، وَتَواصَوا بالصَّبْرِ، وَالْمَرحَمَةِ. ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا على نَبِيِّ الرَّحمَةِ, فَالَّلُهمَّ صَلِّ وَسَلِّم وَبَارِكْ على عَبدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمَّدٍ وعلى آلِهِ وَأصْحَابِهِ, وَالتَّابِعِينَ ,اللهمَّ طَهَّر قُلُوبَنَا من الغِلِّ والحقدِ والحَسَدِ، اللهمَّ أسبِغ علينا رحمةً من عندكَ تُغنِينَا بِها عَمَّن سِوِاكَ رَبَّنا اغفر لنا ولِوالِدينا وارحمهما كما ربَّيانا صِغَاراً, اللهمَّ أعنَّا على بِرِّهما وهم أحياءً وَمَيِّتينَ, اللهمَّ أقِرَّ أعيُنَنا وأسعِد قُلوبَنَا بِصلاحِ شَبَابِنَا وَفَتَيَاتِنَا، اللهمَّ اجعلنا وذُريَّاتِنا مُقِيمِي الصَّلاةِ ربَّنا وتقبل دعاء، اللهم أعزَّ الإسلامَ والمُسلِمينَ وَفِّقْ ولاةَ أُمُورِنا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى أعنْهُم على البِرِّ والتَّقوى, وَاجْزِهِمْ خيرًا على خدمة الإسلامِ والمُسْلِمينَ. انْصُر جُنُودَنَا واحفَظْ حُدُودَنَا, رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.