رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الوَالِدَيْنِ 12/6/1446هـ
الحمدُ للهِ أَمَرَنا بالقَولِ للوالدينِ قولاً كَرِيمًا، أَشهدُ ألَّا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ربًّا رَؤُفًا رَحِيمًا, وأَشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ نَبِيًّا كَرِيمًا، صلَّى اللهُ وبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلى آلِهِ وَأَصحَابِهِ، وَالتَّابعينَ لهم بِإحْسَانٍ ومن تَبِعَهم بِإحْسَانٍ وَسَلَّمَ تَسلِيمًا مَزِيدًا. أمَّا بعدُ. عبادَ اللهِ: أوصيكم وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ وطَاعَتِهِ, وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.) وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
أيُّهَا الْمُسْتَمِعُ الْكَرِيمُ: دُونَكَ بابٌ من أبوابِ الجِنَانِ! بابٌ قَرنَهُ اللهُ بحقِّهِ وَطَاعَتـِهِ, وَجَعَلَ رِضَاهُ بِرِضَاهَا, وَالجنَّةُ مِنْ تحتِ قَدَمَيهَا! فَقَالَ عزَّ من قَائِلٍ:(وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً (. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ).
نَعَمْ إنَّها الأُمُّ صَاحبةُ القَلْبِ الرَّحيمِ, لا تُجازِي بِالسَّيئَةِ، ولا تُعامِلُ بالْمِثلِ! أَمَلُها الكَبِيرُ ودُعَاؤُها الْمُستَمِرُّ أَنْ تَحيَا سَعِيدَاً! وَأَنْ تَكُونَ مُرْتَاحًا هَانِئًا! أُمُّكَ: هيَ مَنْ تُعطِيكَ ولا تَطلُب مِنْكَ أَجْرًا، وتَبْذُلُ ولا تُأَمِّلُ مِنْكَ شُكْرًا!
الأُمُ يَا مُؤمِنُونَ: بَابُ الجِنَانِ, وطريقٌ إلى الْمَلِكِ الدَّيَّانِ! تَأمَّل كَيفَ عَظَّمَ اللهُ شَأنَهَا؟ وَأَعْلَى الرَّسولُ الكريمُ مَكَانَتَها؟ حَتى قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ :(رِضا الرَّبِّ فِي رِضا الوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا). صَحَّحَهُ الألبَانِيُّ رَحِمَهُ اللهُ. قَالَ: ابنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ» قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. رَواهُ الْبُخَاريُّ. وعَنْ مُعَاوِيَةَ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ، قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ارْجِعْ فَبَرَّهَا, والْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ». وَلَمَّا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ: " أُمُّكَ, ثُمَّ أُمُّكَ, ثُمَّ أُمُّكَ». (رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
أيُّها الأَوفياءُ: هل سَمعتم خَبَرَ رَجلٍ عَاشَ في عَهدِ رَسُولِ اللهِ ولم يَنَلْ شَرَفَ الصُّحبَةِ, وقد كانَ مُستَجَابَ الدَّعوةِ؟ وَقَد وصَفَهُ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِأَدَقِّ الأَوصَافِ؛ وَذَكَرَ اسمَهُ وقبيلَتَهُ وعلامةً في كَتِفِهِ! أَرْشَدَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطلُبُوا منه الدَّعاءَ. أَتَدرُونَ يا رَعَاكُم اللهُ بِمَ حَصَلَ على كُلِّ تِلكَ الْمَزَايا؟ إنَّهُ بِبِرِّه وخِدمَتِهِ لأُمِّهِ! كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذَا أَتَى أَهْلُ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ القرنيُّ؟ اسْتَمَرَّ عَشْرَ سِنِينَ لَمْ يَمَلْ. وَفِي سَنَةِ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ فِي الحَجِّ صَعَدَ عُمَرُ الجَبَلَ وَنَادَى بِأَعْلَى صَوتِهِ: يَا أَهْلَ اليَمَنِ، أَفِيكُمْ أُوَيسٌ مِن مُرَادٍ؟ فَقَامَ شَيْخٌ مِنْهُمِ فَقَالَ: يا أميرَ الْمؤمنين، قد أكثرتَ السُّؤَالَ عَن أُوَيْسٍ هَذا، وَما أَعْرِفُ أَحَداً إلَّا ابْنَ أَخٍ لِي، وَضِيعُ الشَّأنِ، تَركتُهُ في عَرَفَةَ يَرعى إِبِلاً لَنا. ليسَ مِثُلكَ يَسأَلُ عنهُ, فَرَكِبَ عُمَرُ إليهِ! فَإذَا هُو بِرَجُلٍ يُصَلِّي والإِبِلُ حَولَهُ تَرعَى، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ. قَالَ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ قَالَ نَعَمْ. فَقَالَ عُمَرُ: اللهُ أَكْبَرُ، أَوْضِحْ عَن شِقِّكَ الأَيسَرِ؟ قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ إلى ذَلِكَ؟ فَقَالَ لَهُ: إنَّ رَسُولَ اللهِ وَصَفَكَ وَقَدْ وَجَدْتُّ الصِّفَةَ، وأَعلَمَنا أنَّ بِشِقِّكَ الأَيسرِ لَمْعَةً بَيضَاءَ. قَالَ عُمَرُ ألَكَ وَالِدَةٌ قَالَ نَعَمْ. قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلاَّ مَوْضِعَ دِرْهَمٍ لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ». وَأَمَرَنَا أنْ نُقرِئَكَ منهُ السَّلامَ، وَأَنْ تَسْتَغفِرَ لَنَا، فَقَدْ خَبَّرَنَا بِأَنَّكَ سَيِّدُ التَّابِعِينَ، وَأَنَّكَ تَشفَعُ يَومَ القِيامَةِ في عَدَدِ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ. فَبَكَى أُوَيْسٌ، وَقَالَ: عَسَى أنْ يكونَ ذَلِكَ غَيرِي، وَلَكِنْ مَن أَنتَ يَرحَمُكَ اللهُ؟ فقالَ: عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فَوَثَبَ أُويسٌ فَعَانَقَهُ وَرحَّبَ به، وقالَ: وَمِثلِي يَستَغفِرُ لِمِثلِكَ؟ قالَ عُمَرُ: نَعم، فاستَغفَرَ لَهُ. أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم مِن كُلِّ ذَنبٍّ وَخَطِيئَةٍ, فَاسْتَغْفِرُوهُ، إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، وَأَشهدُ ألاَّ إلهَ إلاِّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأَشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ وَرَسولُهُ، صلَّى اللهُ وسَلَّمَ وَبَارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ وأَصحابِهِ. أمَّا بعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ حَقَّ التَّقوى، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ اللهَ قَرنَ حَقَّهُ بِحَقِّ الْوَالِدَينِ، وَشُكْرُهُ بِشُكْرِهِمَا ، وَأَوصَى بِهَما إِحسَانَاً بَعدَ عبادَتِهِ فَقَالَ: (وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً).
أيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: البِرُّ بالوالِدَينِ لا يَلْزَمُ مِنْهُ حَاجَتُهُمَا أو عَجْزُهُما! فَهُمَا أَهْلٌ لِلبرِّ والرَّحمةِ والإحسانِ!
فَبِرُّ الوالِدَينِ خَيرُ مَا يُتَقرَّبَ بِهِ إلى اللهِ تَعَالَى، فَفِيهِ تَتَنزَّلُ الرَّحمَاتُ وتُكشَفُ الكُرُبَاتُ، بِرُّ الوالِدَينِ مِفتَاحُ كُلِّ خَيرِ ومِغْلاقُ كلِّ شَرٍّ، بِرُّ الوالِدَينِ سَبَبٌ لِدُخُولِ الجِنَانِ والنَّجَاةِ من النِّيرانِ، بِرُّ الوالِدَينِ سَبَبٌ في بَسطِ الرِّزقِ وطُولِ العُمُرِ، بِرُّهُمَا سَبَبٌ في دَفْعِ الْمَصَائِبِ وإِجَابَةِ الدُّعاءِ، فَأينَ نَحنُ مِن هذهِ النَّفَحَاتِ؟! مَنْ بَرَّ والِدَيهِ بَرَّهُ أَبنَاؤُهُ جَزَاءً وِفَاقَاً! فَأوصِيكُم ونَفْسِي بِبِرِّ الوَالِدَين وأنْ نَسعَى لإِرضَائِهِمَا وإِسعَادِهِمَا. تَواضَعْ لَهُمَا، واخفِض لَهما جَنَاحَ الذُّلِ والرَحمَةِ, والجَأ إلى اللهِ بالدَّعَاءِ لَهما حَالَ حَيَاتِهُما وبعدَ مَمَاتِهُما! وَرَدِّدْ) رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
إنِّي أَدعُوكم يا كرامُ: ألاَّ تَخرجًوا مِن هذا الْمكانِ إلاَّ وقَد عَاهَدتُمُ اللهَ أنْ تَبذُلُوا وُسعَكُم بالبِّرِ والإحسانِ, وإصلاحِ أيِّ خِلافٍ أو شَنَآنِ, فَمنْ كَانَ بِهما بَرَّا فَليُحافِظ على ذَلِكَ ويَزدَادُ، ومَن كانَ غيرَ ذَلِكَ فَلْيَخْشَ العَذَابَ والنَّكالَ! فَهَيَّا بِنَا جَميعاً نُسعِدْهُمَا بِما يُحبَّانِ, وَنَدْعُو لَهمَا في كُلِّ أَوَنٍ, وألاَّ نَرضَى بِمَنْ يُسيءُ إِليهِمَا, أو يُعَكِّرُ صَفوَهُما! هَيَّا بِنَا جَميعاً نَطمَئِنُّ عَليهما وَنَرعَاهُمَا, فاللهمَّ أعنَّا على بِرِّهما أحياءً ومَيِّتينَ, اللهمَّ أسعِدنا بِدُعائِهما وبِرِّهما واجعلهم عنَّا راضينَ، اللهمَّ من أفضى منهما إلى ما قَدَّمَ فَنَوِّرَ لهُ قَبرَهُ، واجزهِ عَنَّا خَيرَ الجَزَاءِ وأوفاهُ، واجمَعنَا بهم في دارِ كرامَتِكَ يا رَبَّ العَالَمِينَ. اللهم فاغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أَسررنا وما أعلنا وما أنت أعلم به منَّا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. اللهم آمنا في أوطاننا ووفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى, وَاجْزِهِمْ خَيراً على خِدْمَةِ الإسْلامِ والْمُسلِمينَ, وَانصر جنودنا واحفظ حدودنا والْمسلمين أجمعين. وَاحْفَظْ أَهْلَنَا وإخْوَانَنَا فِي سُورِيَا وَفِي كُلِّ مَكَانٍ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. رَبَّنَا آ ربنا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. عباد الله اذكروا الله العظيمَ يذكركم واشكروه على عمومِ نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعونَ.