وَدَاعًا عَامَنَا 29/12/1445هـ
الحمدُ للهِ، تَفرَّدَ عِزًّا وَكَمَالاً، جَلَّ وتقدَّسَ وَتَعَالى، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، خَلَقَنا لِيَبلُوَنا أيُّنا أحسَنُ أَعْمَالاً, وأَشْهدُ أنَّ نَبِيَّنَا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، أَكرَمُ النَّاسِ خِصالاً وَفِعالاً, حذَّرَنَا مِنْ الاغْتِرَارِ بِهذهِ الدَّارِ، وَأَمَرَ بالاسْتِعْدَادِ لِدَارِ القَرَارِ، صلَّى الله ُوَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ وَعلى آلِهِ وأَصْحَابِه الأَطْهَارِ. أمَّا بعدُ: فاتَّقوا اللهَ على كلِّ حالٍ وفي كلِّ مكانٍ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُ .
عبادَ اللهِ: حياتُنا مَرَاحِلٌ، ونحنُ في الدُّنيا بين مُستعدِّ لِلرَّحيلِ ورَاحِلٌ، والليلُ والنَّهارُ يَتعاقَبَانِ لا يفتُرانِ! فَمَا مِنَّا إلاَّ حَيٌّ أدركَتُهُ مَنيِّتُهُ، فَوُرِيَ بالتُّرَابِ، أو صغيرٌ بلغَ سِنَّ الشَّباب، أو شيخٌ امتدَّت به الْحَيَاةُ حتى شابَ، وَمِنْ وَرَاءِ الجميعِ نِقَاشٌ وحِسَابٌ، اللهُ أكبرُ عبادَ اللهِ: عامٌ من أَعمارِنَا تَصرَّمتْ أيَّامُهُ واخْتَفَى هِلالُهُ! لِنُدرِكَ أنَّ الدُّنيا ليست بِدارِ قَرَارٍ! وَأَنَّا بَعدَها إلى جنَّةٍ أو نَارٍ! فَهَنِيئًا لِمَن أَحْسَنَ وَاسْتَقَامَ، وَالوَيلُ لِمَنْ أَسَاءَ وَارتكَبَ الآثَامَ: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ .
أيُّها الْمؤمنِونَ: في تَوديعِ عامٍ, فُرَصًا للمتأمِّلينَ, وذكرَى للمُعتبرينَ، كما قالَ رَبُّنا تباركَ وتعالى: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ . والكيِّسُ العاقِلُ بِحاجَةٍ لِمُحَاسَبَةِ نَفْسِه وَتقييمِ مَسَارِها يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ: "وهلاكُ القلبِ إنَّما هو من إهمالِ مُحاسبَةِ النَّفْسِ ومِن موافَقَتِها واتِّباعِ هَوَاهَا". فليتَ شِعري ماذا أودَعنا عَامَنا المَاضِي؟ ومَاذَا عَسانَا أنْ نَسْتَقْبِلَ به عامَنا الْجَديدَ؟ عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قالَ: أَخَذَ النبيُّ بِمَنْكِبي فقالَ:(كُنْ في الدُّنيا كأنَّك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ). فعابرُ السَّبيلِ يَستكثرُ من زادِ الإيمان، عابرُ السَّبيلِ لا يُدَنِّسُ نَقَاءَ النَّهارِ بآثامِه، ولا يُقَصِّرُ الليلَ بغفلَتِهِ وَمَنَامِهِ، إنْ دُعيَ إلى طَاعةٍ أجابَ وَلَبَّى، وإنْ عَلم مَوطِنَ مَعصِيَةٍ خافَ وَخَشِيَ رَبَّهُ, قَالَ الْحَسَنُ البَصريُّ رحمهُ اللهُ:" لا تَلْقَى الْمُؤمِنَ إلا يُحَاسبُ نَفْسه؛ والفَاجرُ يَمْضِي قُدُمًا لا يُحاسبُ نَفسُهُ".
عبادَ اللهِ: وَاقِعُ الكثيرينَ منَّا! يحكِي أنَّ الدُّنيا عَشْعَشَتْ في القُلُوبِ، حديثنا فيها: كم نَربَحُ؟ وكيفَ نَجمَعُ؟ إنْ كانَ شيءٌ لِلدُّنيا بَادَرنا إليهِ مُبكِّرينَ، وأقمَنا عند بابهِ فَرِحينَ، وإن كانَ للآخرةِ فاللهُ الْمُستعانُ على ما تَعْلَمُونَ! تَأمَّل إذا رُفِعَ الأذانُ: هل أنتَ مْن الْمُبكِّرينَ الْمُسارِعِينَ للخيراتِ؟ فهنيئاً لكَ الْمُبَادَرَةَ! مَرَّ عليكَ في عامِكَ الْمُنصَرِمِ ألفٌ وثمانُمائَةِ صلاةٍ مَفرُوضةٍ، فكم حَفِظتَ منها؟!بل كم ضيَّعتَ منها بعذرٍ وبغيرِ عذر؟ كم صلاةٍ أدَّيتَها على عُجَاَلٍة وأنتَ مَشغوُلُ البالِ؟ يا عبد الله: مَرَّ عليكَ في عامِكَ الْمُنصَرِمِ أكثرُ من خمسينَ جُمُعَةٍ! فكم حصَّلتَ فيها مِن البُدنِ أو البَقَرِ أو الأَكبَاشِ؟ أم كانَ نصيبَ الكثيرينَ منَّا الدَّجاجُ أو البيضُ أو الحِرْمَانِ؟ يا عبدَ الله: كم حصَّلتَ في عامِك الْمُنصَرِمِ من الأموالِ؟ فكم أنفقتَ منها في سبيلِ الهوى والشَّهوات؟!ثمَّ اسأَلْ نَفْسَكَ كم أنفقتَ منها للهِ, ولدينِه, وللمؤمنين؟!أَخرَجَ مُسلمٌ رحمه اللهُ في صحيحهِ عن مُطَرِّفٍ عن أبيه قال: أتيتُ النبيَّ وهو يَقرَأُ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ .(يقولُ ابنُ آدمَ: مالي, مالي). قالَ النَّبِيُّ :(وهل لكَ يا ابنَ آدمَ من مالِكَ إلا ما أَكلْتَ فأفنيتَ أو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أو تصدَّقتَ فأمضيتَ). فاللهم إنِّا نسألكُ حُسْنَ القول والعملِ, اللهم أحسن عاقِبَتِنَا في الأُمورِ كلِّها وأجرنا من خزي الدُّنيا وعذابِ الآخرةِ واستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍّ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية/
الحمدُ لله دَعَا العِبَادَ لِمَا تَزكُوا به النفوسُ وتَطْهُر، أَشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ لهُ كُلُّ شيءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُقَدَّر، وَأَشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسولُه, أَبْلَغُ واعظٍ وأَصْدَقُ مَنْ بَشَّرَ وَأَنْذَرَ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وأصحابِه خيرِ صَحْبٍ ومَعْشَرٍ، أَمَّا بَعدُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إِلَيهِ الوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا في سَبِيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ .
أيُّها الْمُسْلِمُ: نعم أنتَ يا من تَسمَعُنِي وتَرَانِي! على أيِّ شيءٍ سَتَطوِيْ صَحَائِفَ عامِكَ هذا؟ فَلَعَلَّهُ لم يبقَ من عُمُرِكَ إلا أيَّامٌ، فاستدركْ عُمُرَاً أَضَعْتَ أوَّلَهُ، فقد قالَ النَّبيُّ :( اغتنم خمسًا قبل خَمْسٍ: شبابَكَ قبل هرمِكَ، وصحتَك قبل سَقَمِكَ، وغِنَاكَ قَبل فَقرِكَ، وفَرَاغَكَ قبل شُغْلِكَ، وحياتَكَ قبل مَوتِكَ).
أيُّها الْمُسلِمُ: مَرَّ عليكَ عامٌ! فما نَصيبُ القُرآنِ في حياتِكَ؟ لِنَحذَرَ أنْ نكونَ مِمَّن شَكَاهُمُ الحَبِيبُ لِمَولاهُ حِينَ قَالَ: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا .يقولُ الرَّبُ تَبَاركَ وتَقَدَّسَ وتعالىَ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا .
مَعَاشِرَ الْمُستَمِعينَ: واللهِ لَتَمُوتُنَّ كما تَنَامُونَ، ولَتُبعَثُنَّ كما تَستَيقِظُونَ، وَلَتُخْبَرُنَّ بِما كُنتم تَعْمَلُونَ، فَجَنَّةٌ لِلمُطِيعِينَ، ونارٌ تَلظَّى للعاصينَ:
أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . فَمَنْ غَفَلَ عن نَفْسِه ضَاعت أوقَاتُهُ, ثم اشتدَّت عليه حَسَرَاتُهُ، عجيبٌ حالُنا: نُوقنُ بالْمَوتِ ثم نَنْسَاهُ! ونَعرفُ الضَّرَرَ ثمَّ نَغشاهُ! نَخشى النَّاسَ واللهُ أحقُّ أنْ نَخشَاهُ! نَغْتَرُّ بالصِّحَةِ ونَنسى السَّقَمِ! نَزْهُو بالشَّبَابِ ونَنسى الْهَرَمِ! نَهْتَمُّ بالعِلْمِ ونَنْسى العَمَلِ! إلاَّ مَن رَحِمَ ربِّيِ! سُبحانَ اللهِ: أَلَمْ يَأْنِ لنا أنْ نُدرِكَ حقيقةَ هذه الدَّارِ؟! يا قومُ: إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ . فَاسْتَكْثِر مِن الحسَنَاتِ، وَتَدَاركِ الهَفَواتِ، قَبْل أنْ يَفْجَأُكَ هادِمُ اللذَّاتِ. قالَ رَسُولُ اللِه :(كلُّ الناسِ يغدو، فَبَائِعٌ نَفسَهُ فَمُعتِقُها أو مُوبِقُها).احْذَرْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ من السَّحرَةِ والْمُشَعوِذِينَ! كُنْ حذِراً من القَنَوَاتِ السَّافِلَةِ, والْمَواقِعِ الفَاسِدَةِ! حَذَّرُوا الأَبْنَاءَ والْبَنَاتِ مِنَ الاخْتِلاطِ والتَّبَرُّجِ والسُّفُورِ! حَذَّرُوهُمْ مِنَ الانْسِيَاقِ خَلْفَ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ بِأَنْوَاعِهَا, حَذِّرُوهُمْ مِنَ أصْوَاتِ النَّاعِقِينَ الذينَ يُفْسِدُونَ وَيُؤلِّبُونَ وَيُفَرِّقُونَ وَيُشَكِّكُونَ فِي ثَوَابِتِنَا!
يَا عَبْدَ اللهِ: عُدْ إلى ربِّكَ نادما، وقِف على بابهِ تائباً، (فَإنَّ الله عزَّ وجلَّ يَبسُطُ يَدَهُ بالليلِ لِيتُوبَ مُسيءُ النَّهارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهارِ لِيَتُوبَ مُسيءُ الليلِ، حتى تطلعَ الشَّمسُ من مَغربِها) وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على الكافرين رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ اللهمَّ اجعل مُستَقبلنا خيراً من ماضينا, وأحسن عاقِبَتِنا في الأمورِ كُلِّها وأجرنا من خِزْي الدُّنيا وعذابِ الآخِرَةِ, اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداءَ الدِّين، واجعل بَلدَنا آمنًا مطمئنًّا وسائرَ بلادِ المسلمين اللهمّ آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاةَ أمرنا، ووفقهم لِما فيه صَلاحُ الإسلام والمسلمينَ, اللهم انصر جُنُودَنَا واحفظْ حُدُودَنَا والمسلمين أجمعين. وَاجْزِهِمْ خَيراً على خدْمَةِ الإسْلامِ والمسلمين.
عبادَ اللهِ: اذكروا الله العظيمَ الجليل يذكركم، واشكروه على عموم نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.