العشْرُ الْمُباركَةُ 19/9/1445هـ
الحمدُ للهِ سَابغِ الجُودِ والإحسَانِ، أَشهدُ ألاَّ إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ له، الرَّحيمُ الرَّحمنُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ أَجودُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آلِهِ وَأصحَابِهِ الذين يُسارِعُونَ فِي الخَيراتِ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الْمَمَاتِ. أمَّا بعد: أيُّها الصَّائِمونَ، اتَّقوا اللهَ تعالى, فَتَقْوَى اللهِ سَبِيلُ الْمُؤمِنينَ، وَاشكُرُوهُ أَنْ هَدَاكُم لِلإيمَانِ، وَمنَّ عَلَيكُم بِبُلُوغِ شَهْرِ الصِّيام والقِيَامِ, وَهَنِيئًا لَنا فَغَدًا أَوَّلُ العَشْرِ الأَوَاخِرِ, ذَاتُ الفَضَائِلِ والْمَنَازِلِ، وسبحانَ اللهِ: كنَّا قبل أَيَّامٍ نَتَبَاشَرُ باستِقبالِهِ وها نحنُ في عَشْرهِ الأَواخِرِ! وعمَّا قليلٍ نُودِّعهُ! أيُّها الصَّائمونَ: شهرُنا أَخَذَ فِي النَّقصِ فَلْنَزِدْ نَحْنُ في العمَلِ، فَكلُّ شَهرٍ عَسى أنْ يكونَ لَهُ خَلَفٌ، إلاَّ رَمَضَانُ مِن أينَ لَنَا عَنْهُ خَلَفٌ؟ ومِن نِعَمِ اللهِ علينا أنْ جعلَ عشرَنا مَوسمَ خَيرٍ وعَطَاءٍ، فَها هيَ عشرُنا حلَّت لِتكونَ فُرصَةً لِمَن فرَّط أوَّلَ الشهر، أو تَاجاً وخِتَامَاً لِمَن أَطَاعَ رَبَّهُ واتَّبعَ الأمْرَ! أيُّها الكرامُ: عشرُنا سُوقٌ عظيمٌ يَتَنافسُ فيه الْمُتَنَافِسونَ، وَيَتَمَيَّزُ فيها الصَّائِمونَ الْمُخلِصونَ! استجابَ أُنَاسٌ للنِّداءِ فخالطَ الإيمانُ قُلُوبَهم، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُؤمنينَ، وَكانوا من الرَّاكعينَ السَّاجِدِينَ. (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). وطائفةٌ أُخرى عِياذاً باللهِ سَمِعتِ النِّداءَ وكأنَّهُ لا يَعنِيها، تَرى الْمُؤمنينَ يُصَلُّون ويَتَهَجَّدُونَ وكأنَّهم عن رَحمَةِ اللهِ مُسْتَغْنُونَ! وَصدَقَ اللهُ: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا). وربُّنا يُنادي ويقولُ: (يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ).
عباد الله: ظاهرةٌ مُؤسفةٌ حقَّاً تَظْهَرُ في العَشرِ الْمُبارَكَةِ، ولا يُعرَفُ لها تَفسيرٌ إلاَّ الغفلةُ والحِرمانُ, فكثيرٌ من الصَّائمينَ قد نَشِطُوا للعبادة أوَّل الشَّهرِ! ثمَّ في مُنتَصَفِهِ ضَعُفَتْ هِمَمُهُمْ وفَتَرَتْ عَزَائِمُهُمْ! ومِمَّا يَزِيدُ الطِّينَ بِلَّةً أن تُقضى ليالِ العشر في التَّنَقُّلِ بينَ الأسواقِ بَحثاً عن أثَاثٍ أو ثِيابٍ، وسُبحانَ اللهِ لا يَحلُو التَّسوُّقُ إلاَّ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ إنَّهُ الحِرمانُ! إنَّهُ الحِرمانُ. وَرَسُولُنا صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:(أَحَبُّ البِلادِ إلى اللهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ البِلادِ إلى اللهِ أَسْوَاقُهَا). فكان لزاماً علينا أن نُذَكِّرَ أنفُسَنا وَأهلِينا بِفَضائِل العَشرِ لِتَكونَ دافِعَا لَنا على الجدِّ والعملِ.
عبادَ الله: لقد كان رسولُنا صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يجتهدُ في العشر الأواخر ويخصُّها بمزيدٍ من الأعمالِ ما لا يجتهد في غيرها من الأيامِ والليالي, فهو يُحي الَّليلَ كُلَّه، ويَتجنَّبُ نساءَه، تقولُ أمُّنا عائشةُ رضي الله عنها قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ. قال ابنُ رجبٍ رحمه اللهُ: ولم يكنِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إذا بقيَ من رمضانَ عشرةُ أيامٍ يَدَعُ أَحَدًا مِن أَهْلِهِ يُطيقُ القيامَ إلاَّ أَقَامَهُ. هَكَذا كَانَ هَدْيُهُ مُتفرِّغًا للعبادةِ, مُقبِلاً عَليها، بَلْ كَانَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يعتكفُ في هَذِهِ العَشْرِ لِيَنْقَطِعَ عَنْ الدُّنيا وَمَشاغِلِها مُتَحَرِّيًّا ليلةَ القدر. وَمِنْ بِعْدِهِ سَارَتْ قَوَافِلُ الصَّالِحِينَ, تَقِفُ أيَّامَ العَشْرِ وَقفَةَ جِدٍّ وَإخلاصٍ, وَيَقِينٍ بِعَفْوِ أَكرَمِ الأَكْرَمِينَ. فَلَقد كانَ قَتَادَةُ رَحمهُ اللهُ يختمُ القرآنَ في كلِّ سبعِ ليالٍ مرةً، فإذا دخلَ رمضانُ ختمَ في كلِّ ثلاثِ ليالٍ مرةً، فإذا دخلتِ العشرُ خَتَمَ في كلِّ ليلةٍ مرةً. أيُّها الصَّائِمُونَ: أَتعجَبُونَ مِنْ هذا الجَلَدِ وَهذِهِ الهِمَّةِ؟ فَمَا أَحْسَنَ مَنْ قالَ في زَمَنِنَا: كُنتُ أقُولُ كيف كانَ السَّلَفُ يَعكُفُونَ على القُرآنِ طَويلاً؟ فَلَمَّا رِأيتُ العَاكِفِينَ على الجَوَّالاتِ زَالَ عَجَبِيْ. وَعَلَمْتُ أنَّ القَلبَ إذا أَحَبَّ شَيئاً عَكَفَ عليهِ!
أيُّها الصَّائِمُونَ: وَمِنْ شِدَّةِ تَعظِيمِ السَّلفِ لِلعَشْرِ: أنَّهُم كانوا يَغْتَسِلُونَ ويَتَطَيَّبُون وَيَتَزَيَّنونَ لها بِأَحسَنِ مَلابِسِهم كُلَّ ليلةٍ. فَاللهَ اللهَ يا صائمونَ، لا تَفُوتَنَّكُم تلكَ الفُرصَةُ العَظِيمَةُ.
يا صائمونَ الإقبالُ على طاعةِ اللهِ مطلوبٌ كُلَّ وقتٍ وحينٍ، وفي العشرِ الأواخِرِ أعظمُ فضلاً, وأكثرُ أجرًا, حيث يَقتَرِنُ فيها فَضْلُ العِبَادَةِ وَفضْلُ الزَّمانِ. ولنا في رَسُولِناَ خيرُ أُسْوَةٍ وإمامٍ.
أيُّها الصَّائمون: اهجروا لذيذَ النَّوم واطردوا عنكم الكسل، وانصبوا أقدامَكم، وارفعوا أكُفَّكم، واسجدوا لربِّكم، وكونوا مِمَّن أثنى الله عليهم بِقَولِهِ: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا). ردِّدوا اللهم إنِّك عفوٌ تحبُّ العفو فاعف عنا، اللهم أعنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ لِطَاعَتِهِ بَرَحْمَتِهِ, أَشهدُ ألاَّ إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ الْمتفرِّدُ بِجَلالِهِ وَكَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَأشْهَدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ اصْطَفاهُ اللهُ لِأَكْرَمِ الخِصَالِ، صلَّى الله وَسلَّمَ وَبَارَكَ عليهِ وَعلى آلهِ وَصَحَابَتِهِ والتَّابِعِينَ لَهُم بِإحسَانٍ وإيمَانٍ إلى يوم الْمَآلِ. أمَّا بعد: اتَّقوا اللهَ عِبَادَ اللهِ, فَتَقْوَى اللهِ سَبِيلُ النَّجَاةِ.
أيُّها الصَّائمونَ: من دلائلِ توفيقِ اللهِ للعبدِ أنْ يَغتَنِمَ هذه الليالي الْمباركةِ، بأنواع العبادة والتَّذلُّلِ بين يدي ربِّه، يَقُومُ مَعَ النَّاسِ في جَوفِ الَّليل وَبِالأَسْحَارِ، ويَدْعُ ربَّهُ, فَاجْتَهِدُوا بالدُّعاء، وسَلُوا اللهَ ولا تَعْجَزُوا ولا تَسْتَبْطِئُوا الإجَابَةَ، أَمَلاً بِالفَوزِ بِلَيلةِ القَدْرِ، وَنَيلِ بَرَكَاتِها، فقد قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ قَامَ لَيلةَ القَدْرِ إيماناً وَاحْتِسَاباً غُفرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ). وَقَد نَدَبَنَا رَسُولُنا صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى التِمَاسِها في ليالِ الوتر من العشر الأواخر، أو السَّبعِ البواقي فعن عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (التَمِسُوها فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَإنْ ضَعُفَ أَحَدُكُم أَو عَجَزَ فلا يُغلبَنَّ على السَّبعِ البواقي). وقد سَأَلَتْ أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها رسولَ الله بأيِّ شيءٍ أدعوا ليلة القدرِ؟ فأرشدها أن تقول: (اللهم إنَّك عفوٌّ، تحبُّ العَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي).
واعلموا رحمكمُ اللهُ: أنَّ الجَمْعَ بين الصيامِ والصَّدقَةِ أبلغُ في تكفيرِ الخطايا والفوزِ بالجنَّةِ! عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الهُ عنهُ قَالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا». قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً». قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا». قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا». قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ» رواهُ مُسْلِمٌ. فهيَّا عباد اللهِ: أكثروا من الصَّدقات فهي سببٌ لِزَكَاءِ نُفُوسِكم، وطهارةِ قُلُوبِكم، ونماءِ أموالِكُم، فَنحنُ في شهر رحمةٍ ومواساةٍ , واللهُ تعالى يقول: (وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). يا صائمونَ: كان رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إذا دخلتِ العشرُ لزمَ الْمسجدَ فلا يخرجُ منه إلاَّ ليلةَ العيدِ. ففي الاعتكافِ أسرارٌ ودروسٌ! فالْمعْتَكِفُ ذِكرُ اللهِ أَنِيسُهُ، والقرآنُ جَلِيسُهُ، والصلاةُ راحتهُ، ومناجاةُ الرَّبِّ مُتعَتُه، والدُّعاء لذَّتُه. فهنيئاً للمعتكفينَ.
يـا رجـالَ الليل جِدُّوا. رُبَّ داعٍ لا يـُـرَدُّ. لا يقـومُ اللـيلَ. إلا مَنْ له عـزمٌ وجِـدُّ.
وَمِن بَشَائِرِ الخَيرِ أنْ أصْبَحَ الاعْتِكَافُ سُنَّةً مُنْتَشِرَةً في عَدَدٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ تَعَالَى. فَشَجِّعُوا الشَّبَابَ وَأَكْرِمُوهُمْ. فالَّلهُمَّ تَقَبَّلْ صِيَامَنَا وَقِيامَنَا وَدُعَاءَنَا، الَّلهُمَّ وَفقْنَا ل لَيلةِ القَدْرِ, واجعل حَظَّنَا فيها مَوفُوراً، وَسَعينا فيها مَشكُوراً. اللهم اجعل شهرنا شهر خيرٍ وبركة للإسلام والْمسلمينَ في كل مكان، اللهم أعتق رقابنا ووالدينا والْمسلمين من النار. اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا. اللهم أعز الإسلامَ والمُسلمينَ، وأذلَّ الكفر والكافرينَ، واحمِ حوزةَ الدينِ، واجعل بلادنا وبلادَ المُسلمين آمنةً مطمئنة يا ربَّ العالمين. اللهم وفَّق ولاةَ أمورنا لما تُحبُ وترضى، وأصلح لهم البطانة، ووفقهم لأداء الأمانة. وَاجزِهِمْ خيرا على خدمة الإسلامِ والمسلمين. اللَّهُمَّ احفظ حُدُودَنا وانْصُرْ جُنُودَنا, ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).