إي واللهِ لَيسَ بَعدَ الكَمَالِ إلاَّ النُّقصَانُ16-09-1444هـ
الحمدُ للهِ جَعَلَ رَمَضَانَ سَيِّدَ الشُّهورِ، ضَاعَفَ فيهِ الحسَنَاتِ وَالأُجُورِ، أَشْهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ يَعلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخفي الصُّدورُ، وَأَشهدُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُ الله ورسولُه بَعَثَهُ اللهُ بِالهدُى والنُّور، صلَّى الله وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آلِهِ وَأصحَابِهِ وَمَن اقْتَفَى أَثَرَهُم بإحسانٍ إلى يوم النُّشُور. أمَّا بعد: فَاتَّقُوا اللهَ يَا صَائِمُونَ سِرًّا وجهرًا، واجعَلوها عُدَّةً لكم وَذُخْرًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). يا صائِمُونَ: لقد مضى شَطرُ رمضانَ، واكتملَ بَدرُهُ، وليس بعد الكمالِ إلاَّ النُّقصانُ! فَاغْتَنِمُوا فُرَصَاً تَمرُّ مرَّ السَّحابِ، واجتهدوا في الطَّاعاتِ قبل أنْ يُغلقَ البابُ، فالْمتَابَ الْمَتابَ، فَضيفُنا يوشكُ أنْ يَرتَحِلَ، فَأَحْسِنُوا فِيمَا بَقِيَ، يُغفرْ لَكُمْ مَا قَدْ مَضَى وَمَا بَقِيَ. يَقُولُ الرَّبُّ في الحديث القُدْسِيِّ: «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرَاً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ» أخرجه مسلم.
أيُّها الصَّائِمونَ: تَذَكُّرُ فَضَائِلِ رَمضانَ, يُجدِّدُ النَّشاطَ في النَّفسِ, ويبعثُ العزِيمَةَ على الاستمرارِ في العبادةِ والعملِ، لأنَّنا مع الأسفِ نَلحظُ أنفُسَنَا أنَّا أوَّلَ الشَّهرِ نُشطَاءَ, ثُمَّ نَفتُرُ شيئاً فَشَيئاً! فكيفَ نُعيدُ النَّشاطَ في نفوسِنا ونُفُوسِ إخوانِنا الصائمينَ؟ من ذلِكَ تَجدِيدُ النِّيَّةِ واستِحضَارُها, بِأَنَّنَا نَصومُ وَنَقُومُ للهِ رَبِّ العالَمينَ، و «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى». علينا أنْ نتَذَكَّر فَضيلَةَ الصِّيامِ وأجرَهُ وَأَنَّ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه ومَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». فَشرطُ الْمغفِرَةِ في ذلكَ كلِّهِ بعدَ الإيمانِ باللهِ, الاحتِسَابُ في كُلِّ الشَّهرِ، لا في أوَّلِهَ فقط!
عِبَادَ اللهِ: لنَتَذَكَّرَ أنَّنا في عِبَادَةٍ نَتَقَرَّبُ بِها إلى اللهِ تَعَالى بتْركِ مَحبُوبَاتِ أنْفُسِنا، فيظْهرُ بذلك صدقُ إيْمانِنا وَكَمَالُ عُبُودِيَّتِنا لِلهِ وَقُوَةُ مَحَبَّتَنا لَهُ وَرَجَاءِ مَا عِنْدَهُ. وتَدَبَّروا قولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلاَّ الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِى بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِى لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ. وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ».
يا صائِمونَ: مِمَّا يُجدِّدُ نَشاطَنَا في مُنتصَفِ شَهْرِنَا أَنَّ: «لِلَّهِ عُتَقَاءُ من النَّار، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ». اللهُ أكبرُ: يا لها من عِبَارَةٍ عظيمَةٍ جداً! تجعلُ صَومَنا للهِ في جميع شَهْرِنَا, وَتَمنعُ من تَحَوُّلِهِ عَادَةً، فَلَعَلَّكَ تَكُونُ أنتَ عَتِيقَ اللهِ أوَّلَ الشَّهرِ أو أوسَطَهُ, فَلِمَا التَّكَاسَلُ والتَّوانِي؟.
أيُّها الصَّائِمونَ: ومِمَّا يُجدِّدُ النَّشاطَ في مُنتصَفِ رَمضانَ, عدمُ الاقتصارِ على نوعِ عبادةٍ, فلا بُدَّ مِن التَّنويعِ في عبادَاتٍ شتَّى, حتى تَطرُدَ السآمَةَ وَالْمَلَلَ, فمن قُرآنٍ إلى دُعاءٍ، إلى إطعامٍ وإنفاقٍ, إلى سعيٍ على الفقراءِ والْمساكينِ، وتَلَمُّسٍ لِحَاجَاتِ الأُسرِ والْمُحتَاجِينَ, وغيرها من أنواعِ البرِّ والإحسانِ, فَيتَجَدَّدُ النَّشاطُ عندكَ وتعودُ لك الحَيَويَّةُ. و: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). فاللهمَّ اجعلنا من الْمقبولينَ في هذا الشهر الكريم, واجعلنا ممن يصومُ رمضانَ ويقومه إيماناً واحتساباً, اللهمَّ أعنَّا فيه على ذكرك وشكرك وحسنِ عبادتكَ, واستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ الْمُسلِمينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍّ فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إليهِ إنَّهُ هُو الغَفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ وَعَدَ الْمُتَّقِينَ لَهُ مَغْفِرَةً مِنهُ وَفَضْلاً، أَشْهدُ أن لا إله إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ حِكْمَةً مِنْهُ وَعَدْلاً، وَأَشْهَدُ أنَّ نَبِينَا مُحمَّداً عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَكْمَلُ الخَلْقِ جُودًا وَبِرًّا. الَّلهُمَ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَاركْ عليهِ، وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ والتَّابِعِينَ لَهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إلى يَومِ الدِّينِ. أمَّا بعد: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَلا تَعْصُوهُ، وَاحْذَرُوا الشَّيطَانَ وَادْحَرُوهُ،: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ). أيُّهَا الْمُؤمِنُونَ، مَرَّ نِصْفُ رَمَضَانَ، كَسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، فَاللهَ نَسْأَلُ أَنْ نَكُونَ فِيهِ مِن الفَائِزِينَ الْمَقْبُولِينَ ,رَحَلَ نِصفَهُ, وبينَ صُفُوفِنا بِحمدِ اللهِ صَائمُونَ راكعُون سَاجدُون، مُسْتَغفِرُونُ، مُنفِقُونَ، طيِّبُوا الذَّكرِ والسِّيرَةِ، نَقِيُّوا القَلْبِ وَالسَّرِيرَةِ، زَادَنَا اللهُ وإيَّاهم هُدَىً وتوفيقاً: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ).
رَحلَ نِصْفُ رَمَضَانَ: وَبينَ صُفُوفِنَا صَائِمُونَ عَن الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، مُفطِرُونَ عَلى أَعْرَاضِ النَّاسِ وَالْحُرُمَاتِ, مُطلِقُون أعينَهم للشَّاشَاتِ والشَّبكاتِ! رَحَلَ نِصفُهُ وبينَ صُفُوفِنا مَنْ فَاتَتْهُم الصَّلواتُ والجماعاتُ! رحل ولا يزالُ بين صُفوفِنا بَخيلٌ شَحيحٌ على إخوانِهِ الْمُحْتَاجِينَ! فَلِهؤلاءِ نقولُ: أَحسَنَ اللهُ عَزائَكُم في مُنتَصفِ شهرِكُم، وَجَبَرَ اللهُ مُصابَكم, ولا تَتَمَادَوا في التَّسويف والتَّواني, فرحمةُ اللهِ واسِعَةٌ, وبابهُ مَفتوحٌ, ومُقبلونَ على عشرٍ فاضِلَةٍ, فاستدركوا ما فاتَ, واعقدِوا العزمَ من السَّاعةِ على الصَّلاحِ والإصلاحِ! فمن رُحمَ في رمضانَ فهو الْمَرحُومُ, وَمَنْ حُرِمَ خيرَهُ فَهُوَ الْمَحرُومُ، ومن لَمْ يَتزوَّدْ فيه فهوَ الظَّلومُ الْمَلومُ، فيا مسلمونَ: قُومُوا بحقِّ شهرِكُم، واتَّقوا اللهَ في سرِّكم وجهرِكُم، فَقَدْ قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ». يا عبدَ اللهِ: جَدَّ القومُ وأنتَ قاعِدٌ، وَتَقَرَّبُوا منْ رَبّهم وأنت مُتَبَاعِدٌ:(يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً). ألا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا على رَسُولِ اللهِ. فَاللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إنا نسألك البر والتقوى ومن العمل ما ترضى. اللهم اجعل مستقبلنا خيراً من ماضينا. اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشِّرك والمشركينَ، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدِّينِ. اللهم من أراد ديننا وبلادنا وأمننا وَأخلاقَنا بسوء فأشغلهُ في نفسه وشتت شمله وافضحه على رؤوس الأشهاد, اللهم وفِّق ولاةَ أمورنا لِمَا تُحبُّ وترضى وأعنهم على البرِّ والتقوى. اللهم انصُرْ جُنُودَنا واحفظ حُدُودَنا والمُسلِمِينَ أجمَعينَ. ربَّنا اغفر لنا ولِوالِدينا والمُسلمينَ أجمعينَ. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. وَلَذِكرُ اللهِ أَكبَرُ وَاللهُ يَعلمُ مَا تَصْنَعونُ.