حيَّ اللهُ شَعْبَانَ 26/7/1444هـ
الحمدُ للهِ بيدِهِ الأَمْرُ، فَضَّلَ شَهْراً على شَهرٍ، أَشهدُ ألَّا إله إلَّا اللهُ وحده لا شَرِيكَ لَهُ، يَعلَمُ السِّرَ والجَهْرَ. وأَشهدُ أنَّ نبِيَّنا مُحمَّداً نَبِيُّ الرَّحمَةِ واليُسرِ، صلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ, وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تبِعَهم بِإحسَانٍ وإيمانٍ إلى يَومِ الْمَقَرِّ. أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُم عِبَادَ اللهِ وَنَفْسِي بِتَقوى اللهِ تعالى القَائِلِ: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
أيُّها الْمُؤمِنُونَ: أَرْبَعُ جُمَعٍ تَفْصِلُنَا عَنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَمِنْ تَعْظِيمِ اللهِ لِرَمَضَانَ, أَنْ هَيَّأَ لَهُ شَهْرَ شَعبَانَ, ولهذا كانَ لِشَعْبَانَ عندَ رَسولِنا من الحَفَاوَةِ وَالعَمَلِ ما يفُوقُ الْمَقَالَ! أَيَّامٌ وَيَفِدُ عَلَينَا هَذَا السَّفِيرُ الكَرِيمُ، فَلْنُكْرِمْ سَفِيرَ حَبِيبِنا، فَمِن حَقِّ رَمَضَانَ عَلينَا أَنْ نَصِلَ قَرِيبَهُ وَقَرِينَهُ!
عِبَادَ اللهِ: إنَّ شَعْبَانَ "شَهرٌ يغفُلُ النَّاسُ عنه" كمَا وَصَفَهُ رَسُولُ اللهِ ،فَمُسْتَحَبٌّ عِمَارَةُ أَوقَاتِ غَفْلَةِ النَّاسِ بالطَّاعاتِ، فَهُوَ مَحبُوبٌ عندَ اللهِ لأنَّهُ أَخفَى لِلعمَلِ وَأَدْعَى للإخْلاصِ وَالقَبُولِ! أَيُّها الْمُؤمِنُونَ: لَقَدْ كَانَ رَسُولُنا الكريمُ في شَهرِ شَعبَانَ يحثُّ الْمُسْلِمِينَ وَيُوَجِّهُهُم إلى زِيَادَةِ الأعْمَالِ الصَّالِحَاتِ! فَكَانَ كَمَا قَالَتْ أُمُّنَا عَائِشَةُ رَضِي اللهُ عنها: "يَصُومُ، شَعبَانَ، حَتَّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ، وَمَا رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلاَّ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيتُهُ فِي شَهْرٍ أَكثرَ صِيَامَاً مِنْهُ فِي شَعْبَانَ" رواه البخاري ومسلم. وفي روايةٍ: كانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّه. وَكَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إلاَّ قَلِيلاً. وَعَن أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِي اللهُ عنهما قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ:" ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ، بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ" حسَّنهُ الألبانيُّ. فَيا أَيُّهَا الأَكَارِمُ: لِنَعْقِدِ العَزَمَ بِعَونِ اللهِ تَعَالى مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ شَعْبَانَ عَلى التَّزوُّدِ من الطَّاعاتِ فِيهِ, وَالْمُنافَسَةِ للخَيْرَاتِ فِيه. حتى لا يَأْتيَ رَمَضَانُ إلاَّ وَقَدْ ارْتَقَينَا مَنَازِلَ عَالِيةٍ مِن الطَّاعةِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
عباد اللهِ: الصِّيامُ في شَعبَانَ من أفضلِ التَّطوُّعِ؛ لأنَّهُ قَريبٌ من صِيامِ فَرْضِ رَمضَانَ، فيكونُ بِمَنزلَةِ السُّنَنِ الرَّواتِبِ مَعَ الفَرائِضِ قَبلَها, قَالَ الإمَامُ ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: "صَومُ شعبَانَ كالتَّمرِينِ على صِيَامِ رَمَضَانَ؛ لئِلَّا يَدخُلَ في صومِ رَمَضَانَ عَلَى مَشَقَّةٍ وَكَلَفَةٍ، بل يَكُونُ قَدْ تَمرَّنَ عَلى الصِّيَامِ وَاعْتَادَهُ وَوَجَدَ حَلاوَةَ الصِّيامِ ولَذَّتَهُ، فَيدْخُلُ فِي صِيَامِ رَمضَانَ بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ" انتهى كلامه رحمهُ اللهُ فَاحْرِصُوا رَحِمَكُمُ اللهُ على صِيَامِ وَلَو بَعْضَ أَيَّامِهِ, وحُثُّوا أَبنَاءَكَم وَدَرِّبُوهم عليهِ؛ حتى لا يُصابُوا بِثِقَلٍ أو تَعَبٍ فِي رَمَضَانَ. وَلْتَبْشِرْ بِالعَونِ والتَّوفِيقِ والأجْرِ الوَفِيرِ, فَنَبِيُّا قَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً في سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفَاً" متفقٌ عَلَيْهِ. فاللهمَّ أعنَّا جميعا على ذِكرِكَ وشُكرِكَ وحُسنِ عبادتكِ. أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ذي العظمةِ والجَلالِ، نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نِعَمِهِ فِي الحَالِ وَالْمَآلِ، وَأَشْهدُ ألَّا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الكَبِيرُ الْمُتعَالُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنا مُحمَّدًا عَبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ, الَّلهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَليهِ، وَعَلَى جَمِيعِ الصَّحْبِ وَالآلِ , ومَنْ تَبِعَهم بِإحْسَانٍ وَإيمَانِ على مَرِّ الَّليالِ. أمَّا بعدُ: فَاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهِ, واحمدوهُ على نِعَمةِ الصِّحَةِ والعَافِيَةِ، فَكلُّ يومٍ لنا فِي هَذِهِ الدُّنيا غَنِيمَةٌ، أَلَمْ يَقُلِ اللهُ تَعَالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورً) أيُّها الأخُ الكَرِيمُ: ضَيفُنا الْمُبارَكُ وغَائِبُنا الحَبِيبُ سَيحِلُّ بِنَا بَعدَ شَهرٍ بِإذْنِ اللهِ تَعَالى, وَمَا أَسْرَعَ قُدُومَهُ! أفَلا يَحسُنُ بِنَا أَنْ نَستَعِدَّ لهُ؟ فَلَقَد كَانَ رَسُولُنا يستَعِدُّ لِذَلِكَ! أَلَا وإنَّ مِمَّا يُسنُّ عَمَلُه في شَعبانَ الإكثارُ من قِرَاءَةِ القُرآنِ الكَرِيمِ، قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه: "كانَ الْمُسلِمُون إذا دَخَلَ شَعبَانُ أَكَبُّوا على الْمَصَاحِفِ فَقَرؤُهَا, وأَخَرجُوا زَكاةَ أَموالِهم؛ تَقوِيَةً لِضَعِفِيهم على الصَّومِ".
اللهُ أكبرُ: مَا أَدَقَّ فَهْمَ السَلَفِ لِشرعِ اللهِ! وَمَا أَحْرَصَهُم عَلى تَحْقِيقِ التَّقوى والإيمَانِ! كُلُّ ذلِكَ تَمريناً لِلنَّفسِ وتَهيِئَةً لَهَا عَلى البَقَاءِ مَعَ القُرَآنِ لِفترةٍ أَطولَ! ومِمَّا يَنبَغي أنْ نَتواصى بِهِ هَذِهِ الأيَّامَ أنْ نُعَوِّد أنفُسَنَا على قِيامِ الَّليلِ, فَلقدَ قَدُمَ عَهْدُ بَعْضِنَا بِهِ! ولو أَنْ نَبْدَأَ مِن الَّليلَةِ بِثَلاثِ رَكَعَاتٍ, ثمَّ بِخَمْسٍ، وَهَكَذَا, حَتى نَنْشَطَ عليه فِي رَمَضَانَ. وما أَسْرَعَ تَصَرُّمَ الأَيَّامِ! واستمِعوا إلى التَّوجيهِ البَليغِ والنُّصحِ اللطيفِ من مُعَلِّمنا الأولِ حينما ذُكِرَ عِنْدَهُ الصَّحابِيُّ الجَلِيلُ مَخْرَمَةُ بنُ شُرَيْحٍ الْحَضْرَمِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ :"ذَاكَ رَجُلٌ لا يَتَوَسَّدُ الْقُرْآنَ" رواه الإمامُ أحمدُ والنَّسائيُ. وَمَعْنَاهُ أنَّه لا يَنَامُ بِالَّليلِ وَيَترُكُ حِزبَهُ من القُرآنِ، فَيَا لَهَا مِنْ بَلاغَةٍ نَبَوِيَّةٍ، وَتَوجِيهٍ لَطِيفٍ.
أيُّها الْمُؤمنونَ: ومِمَّا يُؤكَّدُ عليهِ في شَعبَانَ صِلَةُ الأرحامِ, وَتَرْكُ التَّشَاحُنِ والبَغضَاءِ, وَفِي أَحَادِيثَ صَحَّحَهَا بَعْضُ العُلماءِ أَنَّ النَّبِيِّ قَالَ: "يَطَّلِعُ اللهُ إلى جَمِيعِ خَلقِهِ لَيلةَ النِّصفِ مِن شَعبَانَ فَيغفِرُ لِجَمِيعِ خَلقِه إلاَّ لِمُشركٍ أو مُشاحِنٍ". وقالَ :"إنَّ الله لَيطِّلِعُ على عبادِه ليلةَ النِّصفِ من شعبانَ، فَيَغفرُ لِلمؤمنينَ، ويُملِي للكافرينَ، ويَدعُ أهلَ الحِقدِ بحقدِهم حتى يَدَعُوه". فَعَلَينَا بِالتَّصَافِي والتَّوادِ, والْمَحَبَّةِ والرحمةِ, علينا بالتَّوبةِ الصَّادِقَةِ النَّصوحِ، والاستغفارِ من جميع الآثامِ،
إذَا أَنْتَ لَمْ تَزْرَعْ وَأَبْصَرْتَ حَاصِدَاً *** نَدِمْتَ عَلَى التَّفْرِيط ِفِي زَمَن ِالبَذْرِ.
عباد اللهِ: مَنْ كَان عَليهِ أَيَّامٌ مِن رَمَضَانَ الْمَاضِي فَلْيُبَادِرْ بِقَضَائِهَا مِن الآنَ, وَذَكِّروا أَهْلَ بَيْتِكُمْ وَتَفَقَّدُوهُمْ بالسُّؤالِ. وَمَنْ كَانَت لِأَخِيهِ مَظْلمَةٌ أَو حَقٌ فَلْيُؤَدِّهَا قَبْلَ أَلاّ َيَكُونَ دِرْهَمٌ وَلا دِينَارٌ. رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. اللهم آتِ نُفُوسَنَا تقواها، وزَكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زَكَّاها، أنتَ وَلِيُّها ومَولاها. اللهم تب على التائبين، واغفر ذنوب المستغفرين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ربنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم أدم علينا نعمة الأمن والإيمان، ووفقنا لما تحبُّ وترضى يا رحمان, اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحبُّ وترضى، وأعنهم على البرِّ والتقوى, وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة يا ربَّ العالمين. اللهم اجعل مستقبلنا خيرا من ماضينا, اللهم بلغنا رمضان، وارزقنا فيه حُسنَ القولِ والعملِ. اللهمَّ أعزَّ الإسْلامَ والْمُسْلِمِينَ وانْصُرْ مَنْ نَصَرَ الدِّينَ, اللهم انصُرْ جُنُودَنا واحفَظْ حُدُودَنا, وَتَقَبَّلَ شُهَدَاءَنا فِي الصَّالِحِينَ , وَرُدَّ كَيدَ الكَائِدِينَ يَاربَّ العالمِينَ. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.