قِصَّةُ إفْكٍ فِيها خَيرٌ عَظِيمٌ 25/6/1443ه
ـ
الحمدُ لله عزَّ واقْتَدَرَ كُلُّ شيءٍ عِندَه بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ, أَشْهَدُ أن لا إله إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ يُوفِّي أَجْرَ مَنْ صَابَرَ وَصَبَرَ, وَأَشْهَدُ أنَّ مُحمَّدا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ خَيرُ البَشَرِ؛ الَّلهُمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارِكْ عليهِ وعلى آلِهِ وَأَصحَابِهِ وَأتْبَاعِهِ وَمَنْ تَبِعَهُم بِإحسَانٍ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ مَنْ شَكَرَ.
أمَّا بَعدُ: عبادَ اللهِ خَيرُ الوَصَايا لَكُمْ وَلِمِنْ قَبْلَكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ, فالتَّقوى عِصمَةٌ مِن الفِتَنِ وسَلامَةٌ في المِحَنِ.
عِبَادَ اللهِ: القُرآنُ الكَرِيمُ نُورٌ وهُدَى, وكُلُّمَا زِدَّتَ مِنهُ تَدَبُّرا وَقُرْبا كُلمَّا قَوِيَ إِيمَانُكُ, وازْدَادَ يَقينُكَ. يا مُؤمِنُونَ: نَتَحَدَّثُ عَنْ قِصَّةٍ نَبَوِيَّةٍ قُرْآنِيَّةٍ حَدَثَتْ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في السَّنَةِ السَّادِسَةِ مِن الهجرَةِ النَّبويِّةِ في شَهْرِ شَعبَانَ, حينَ كانَتِ فِتَنُ اليَهُودِ والْمُنافِقِينَ تَعصِفُ بالدَّولَةِ المُسلِمَةِ الجَدِيدَةِ, وَالأَطمَاعُ الخارِجِيَّةُ تُهَدِّدُهم! سُبْحَانَ اللهِ فِي هذِهِ الأَجْوَاءِ تَأتي حَادِثَةٌ مُفْجِعَةٌ وَمُحزِنَةٌ عَلَّقَتْ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ شَهْرا كَامِلا وَجَعَلَتْهُ فِي حَيرةٍ وَحُزْنٍ, وَقَلَقٍ وَهَمٍّ, لأنَّها تَتَعَلَّقُ بِشَرَفِهِ وَعِرضِهِ! وَمَعَ مَنْ؟ مَعَ زَوجَتِهِ وَحِبِّهِ عَائِشَةُ الطُّهْرِ رَضِي اللهُ عَنْها وأَرْضَاهَا. هذه الحَادِثَةُ هَزَّتْ قَلْبَ أَبِي بَكْرٍ وَزَوجِهِ أُمِّ رُومَانَ –رضي الله عنهما- وأَدْخَلَت عَليهمَا شَقَاءً وَنَكَدًا لا يَعْلَمُ مَدَاهُ إلَّا اللهُ تَعَالى. أَمَّا الصِّدِّيقَةُ بِنتُ الصِّدِّيقِ صَاحِبَةُ الشَّأنِ فَوَاللهِ لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ بِما يَدُورُ حَوْلَهَا! عِبَادَ اللهِ: هَذِهِ الحَادِثَةُ كَشَفَتِ الحَقَائِقَ وأَظهَرَتِ الْمُؤمِنَ مِنَ الْمُنَافِقِ, وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ فيها آياتٍ نَتْلُوهَا إلى يَومِ القِيَامَةِ. ظَاهِرُها الأَلَمُ والقَلَقُ والشَّرُّ! ولَكِنَّ حَقِيقَتَها الخَيرُ والرَّحمَةُ والهِدَايَةُ, أَعُوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ).
أيُّها المُؤمِنُونَ: هَلْ يَخطرُ بِبَالِ أَحَدِكُم أَنْ يُتَّهمَ رَسُولُ اللهِ فِي عِرضِهِ وَزَوجِهِ؟ وَهُوَ أَغيرُ النَّاسِ وأَشَرفُهم! ومِنْ مَنْ؟ مِنْ أَهْلِ النِّفاقِ، والدَّجَلِ، وَمُثِيرِي الضَّلالِ، وَالفِتَنِ! فَصَاروا يُوجِّهونَ سِهَامَهُم وسُمُومَهمِ لعَائِشَةِ الطُّهرِ والنَّقَاءِ والعَفَافِ والصَّفَاءِ, فِي أُمِّنَا التِي فَضْلُها على النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ على سَائِرِ الطَّعَامِ, لِمَنْ أَقْرِأَهَا جِبْريلُ السَّلامَ والتَّحِيَةَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ, في الصَّحِيحينِ أنَّ رَسُولَ اللهِ سُئِلَ: (أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ قَالَ: عَائِشَةُ. قِيلَ مِنَ الرِّجَالِ قَالَ: أَبُوهَا). عَائِشَةُ -رَضِي اللهُ عَنْها- هِيَ التي كَانَ الوَحْيُ المُبَاركُ يَتَنَزَّلُ على رَسُولِ اللهِ وَهُو فِي لِحَافِها وَفِرَاشِها دُونَ غَيرِهَا, كَفَاهَا شَرَفاً أنَّها زَوْجَةُ رَسُولِ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ! كَفَاها عِزَّا أنَّ رَسُولَ اللهِ تُوُفِّيَ فِي بَيتِها وَبَينَ سَحْرِهَا وَنَحْرِهَا! أَيُعقَلُ أنَّ امرأةً بِتِلكَ الحَصَانَةِ والرَّزَانَةِ والمَكَانَةِ تُهتَّمُ في عِرضِها؟ (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ). عِبَادَ اللهِ: أَتُريدُونَ أَنْ تَسْتَمِعُوا لِلقِصَّةِ غَضَّةً طَرِيَّةً كَمَا وَقَعَتْ؟ فَلنَدَعَ لصاحِبَةِ الشَّأنِ تَحكي قِصَّتَها لا بَلْ مَأْسَاتَها وَمُعَانَاتَها. أَقولُ ما تَسمَعُونَ وأستَغفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائِرِ المُسلِمينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبِ فَاستَغفِرُوه إنِّهُ هُو الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ وَكَفَى وَصَلاةً وَسَلامَاً على الْمُصطَفَى وعلى آلِه وأَصحَابِهِ وأتبَاعِهِ وَمَنْ بِهُدَاهُم اهتَدَى. أَمَّا بَعدُ: فاتَّقوا اللهَ يا مُؤمِنُونَ واستَمِعُوا بِقُلُوبِكُم, وَأَصْغُوا أَسمَاعَكُم, لِكَرْبِ أُمِّكُم وَمَأسَاتِها, فَفِيهِ دُرُوسٌ وَعِبرٌ!تَقُولُ أُمُّنا عَائِشَةُ رَضِي اللهُ عَنْها: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم-إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ – يعني يَأْخُذُ مَنْ تَقَعُ عَليها القُرْعَةُ- فَخَرَجْتُ مَعَهُ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي- والهَودَجُ يَا شَبَابُ مَكَانٌ مَسْتُورٌ فَوقَ ظَهْرِ الجَمَلِ كالغُرْفَةِ لَهَا- فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ مَسِيرَنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ غَزْوِهِ وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ.فَلَمَّا قَضَيْتُ حَاجَتِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدِي قَدِ انْقَطَعَ فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُه فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَحْمِلُونَنِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي عَلَى بَعِيرِي وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلاَ مُجِيبٌ فَتَيَمَّمْتُ مَكَانِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ.فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَادَّلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَوَاللَّهِ مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً وَلاَ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ.فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ بها شَهْرًا. يَعني مَرِضَتْ. وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ وَلاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ والذي يَرِيبُنِي أَنِّى لاَ أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِى إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ. فَذَاكَ الذي يَرِيبُنِي وَلاَ أَشْعُرُ بِالشَّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقِهْتُ. -يعني تَشَافَيتُ من مَرَضِي - وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ لِأَقْضِيَ حَاجَتِي وَلاَ نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ حتى إذا فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا عَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ. فَقُلْتُ لَهَا بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلاً قَدْ شَهِدَ بَدْرًا. قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِى فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: "كَيْفَ تِيكُمْ". قُلْتُ أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ. فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لأُمِّي يَا أُمَّتَاهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ فَقَالَتْ يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَ اللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلاَّ أكَثَّرْنَ عَلَيْهَا قُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا! قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصَبَحْتُ أَبْكِي. وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ تأخَّر الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، فَأَمَّا أُسَامَةُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ أَهْلُكَ وَلاَ نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ بَرِيرَةَ فَقَالَ: أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟ قَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ أريتُمُ البَرَآةَ بِأحلى صُوَرِها، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْمِنْبَرِ فقال: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَوَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي. قَالَتْ: وَبَكَيْتُ يَوْمِينِ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي!يا مُؤمِنُونَ تَصَوَّرُا هَذاَ المَشهَدَ تقُولُ: فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لأَبِى أَجِبْ عَنِّى رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا قَالَ.فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا أَقُولُ فَقُلْتُ لأُمِي أَجِيبِي عَنِّى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا أَقُولُ فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ: إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ أنِّى بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّى بَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّى بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونَنِي وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ).ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا وَاللَّهِ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْىٌ يُتْلَى وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيَّ! فَوَ اللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْي. فسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ. فَقَالَتْ لِي أُمِّي قُومِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) عَشْرَ آيَاتٍ َأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فيها بَرَاءَتِي.
عِبادَ اللهِ: فِي القِصَّةِ عَدَدٌ مِن الدُّرُوسِ والآيَاتِ والمَواعِظِ والعِبَرِ, عَلَّنا نُوَفَّقُ إلى عَرضِها فِي جُمُعَةٍ قَادِمَةٍ, وَصَدَقَ حَسَّانُ بنُ ثَابِتٍ حِينَ قَالَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزنُّ بِرِيبَة *** وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِن لُحُومِ الغَوَافِلِ
حَلِيلَة ُ خَيرِ النَّاسِ دِينَاً وَمَنْصِبَاً *** نَبِيِّ الهُدَى والْمَكرُمَاتِ الفِوَاضِلِ
مُهَذَّبَة ٌ قَدْ طَيَّبَ اللهُ خَيمَهَا *** وطهَّرَهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَبَاطِلِ
رَضِيَ اللهُ عنْ أُمِّنا عائِشَةَ وأَرْضَاهَا وأُمَّهاتِ المُسلمينَ. وقَطَعَ اللهُ لِسانَ وَقَلْبَ مَن نَالَ مِنهَا وأخزاهُ. اللهمَّ ارزُقنا جَمِيعَاً العِلمَ النَّافِعَ والعَمَلَ الصَّالِحَ. اللهمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاها وَزَكِّها أَنتَ خَيرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنتَ وَلِيُّها وَمَولاهَا. اللهمَّ إنَّا نَعوذُ بِكَ مِنْ مُضلاتِ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنها ومَا بَطَنَ, اللهمَّ مَنٍ أرادنا وأرادَ دِينَنَا وأَمنَنَا وبِلادَنا بِسوءٍ فَأشغلهُ في نَفْسِهِ واجعَل كَيدَه فِي نَحرِه. اللهم احفظ حُدُودَنا وجُنُودَنا وبلادَنا وبلادَ المُسلمينَ يا رب العالمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وأعنهم على البر والتقوى وارزقهم بطانةً صالحةً ناصحةً يا رب العالمين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمناتِ والمُسلمين والمُسلماتِ الأحياء منهم والأموات. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. عبادَ الله: اذكروا الله العظيمَ يذكُركم، واشكروه على عمومِ نعمه يَزِدْكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعونَ.