الإجَازَةُ مَزْرَعَةٌ لِلآخِرَةِ 8/11/1442ه
ـ
الحمدُ للهِ خلَق الإِنسَانَ فجَعَلَهُ سَميعًا بَصِيرًا، أَشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ لَهُ إنَّه كانَ حليمًا غفورًا، وَأشهَدُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُ الله ورسولُه، كانَ للهِ عبدًا شَكُورًا، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آلِه وَأصحَابِهِ، والتَّابعينَ وَمَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ وَسَلَّمَ تَسلِيمَاً مَزِيداً. أمَّا بعدُ: عبادَ اللهِ أوصيكم وَنَفسِي بِتقوى اللهِ:(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
أيُّها المُسلِمُونَ: الأعمالُ الصَّالحةُ أغلَى مُكْتَسَبٍ، والعُمرُ أثمنُ البَضَائِعِ، والحَسْرَةُ والخَسَارُ لِمنْ قَصَّرَ فيه وأَضَاعَهُ، وَمِن عَلامَاتِ المَقْتِ إِضَاعةُ الوَقتِ، وإذا أحبَّ الله عبدَهُ بَارَكَ لَهُ في عُمرِهِ، والخيرُ والتَّوفيقُ في بَركَةِ العُمُرِ، لا في طُولِه و قِصَرِه، وَالْمُسْلِمُ يَستَعِيذُ بِربِّه مِنْ فِتْنَةِ الْمَمَاتِ وَمِن فِتنَةِ الْمَحْيَا كَذِلِكَ. وإنَّك لَتَغْبِطُ أناساً جَعَلُوا الإجازةَ مَغْنَمَاً، نَظَروا إليها بِفَألٍ حَسَنٍ! وحَرِصوا فيها على مَا يَنفعُهم فَلَمْ يَعْجَزُوا، تَرَكُوا التَّشَكِّيَ والتَّلاومَ، وأَخَذُوا بِدُعاءِ نبيِّنا صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «الَّلهُمَّ إنِّي أَعوذُ بِكَ من العَجزِ والكَسَلِ ومِن الجَبْنِ والبُخلِ». فَاغتَنَمُوا صِحَّتَهم وَفَرَاغَهُم بِما يُرضي ربَّهم أَخْذاً من قولِ نَبِيِّنا صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» رواه البخاريُّ. عبادَ الله: وحصولُ الفَرَاغِ وَكَمَالُ الصِّحةِ نِعَمٌ عَظِيمَةٌ، ولهذا أثنى اللهُ تعالى على مَنْ عَمَرَ عَصْرَهُ وَوقْتَهُ بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ فقالَ: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر. (والْقَرَارُ فِي البُيُوتِ والأَمْنُ بِهَا نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، وَكَثِيراً مَا تَسْمَعُ فِي الإجَازَاتِ: مَلَلْنَا مِن البَقَاءِ في البَيتِ! نُرِيدُ الخُرُوجَ. فَذَكِّرْ أَهْلَ بَيتِكَ بِقَولِ اللهِ تَعَالى:(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِن بُيوتِكُم سَكَنًا). فَهِيَ تُكِنُّكُمْ مِنَ الْحَرِّ وَالبَرْدِ وَتَسْتُرُكُمْ أَنْتُمْ وَأَولادُكُمْ وَأَمْتِعَتُكُمْ وَمَحارِمِكُمْ. وَذَكِّرْهُمْ بِقَومِ سَبَأٍ فَقَدْ مَلُّوا حَيَاةَ الرَّاحَةِ والتَّقَارُبِ وَالنِّعَمِ فَقَالُوا: (رَبَّنا باعِد بَينَ أَسفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ). فَمَزَّقَهُمُ اللهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَأَصْبَحُوا عِبْرَةً لِمَنْ يَعْتَبِرُ. فَالبُيُوتُ نِعْمَةٌ فَاحْذَرْ أنْ تُحْرَمَ مِنْهَا بِأَنَّكَ مَلَلْتَ مِنْهَا. عِبَادَ اللهِ: صِنفٌ مِنَ النَّاسِ مُوفَّقُونَ فِي الإِجَازَةِ اسْتَفتَحُوها بِالقُرآنِ الكَريمِ، تِلاوةً وَحِفْظًا وَتَدَبُّرًا وَتَفْسِيرًا مُتَمَثِّلِينَ قولَ المُصطَفَى صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» رواه البخاريُّ. فَالَّلهُمَّ ارْزُقْنَا وَإيَّاهُمُ البِرَّ والتَّقوى وَمِنَ العَمَل مَا تَرْضَى. وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي وَلَكُم ولِلْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍّ فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله الذي أَعَادَ وَأَبْدا، أَجْزَلَ عَلَينَا النِّعَم وَأَسْدَى، أَشهَدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ العَلَيُّ الأَعْلَى، وَأَشهدُ أَنَّ محمدًا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خَيرُ نَبِيٍّ وَأَزْكَى، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَليهِ وَعلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُم بِإحْسَانٍ إلى يَومِ الدِّينِ. أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ فلا عِزَّ إِلاَّ بِطَاعَتِهِ، وَلا نجاةَ إِلاَّ بِتَقوَاهُ. أَيُّهَا الكِرَامُ: فِي كُلِّ ِإجازةٍ يُمَنِّي المَرءُ نَفسَهُ بِأَمَانِيَّ كَثِيرَةٍ، فَإِذَا الأَمَانِيَ تَنَاثَرت، وَتَنقَضِي الإِجَازَةُ وَمَا قَضَى مُرِيدٌ مُرَادَهُ، (فلَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي وَلَا بِالتَّحَلِّي، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْب وَصَدَّقَهُ الْعَمَل) أَلَيسَ مِنَ الخُسرَانِ أَنَّ لَيَالِيًا تَمُرُّ بِلا نَفعٍ وَتُحسَبُ مِن عُمرِي
عِبَادَ اللهِ: لَيس عَقلاً أَنْ تَكُونَ الإِجَازَةُ ضَيَاعًا لِلأوقَاتِ، وهدْرًا للطَّاقات، وَرُكُوبًا لأَصنَافِ المُنكَرَاتِ. فإنَّ رَسُولَنَا صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَوصَانَا فَقَالَ:(اِغتَنِمْ خمسًا قَبلَ خمسٍ: شَبَابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبلَ فَقرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبلَ شُغلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبلَ مَوتِكَ).حَدِيثٌ صَحِيحٌ فَبِاللهِ عَلَيكمْ مَاذَا جَنَى أَرْبَابُ السَّفَرِ إلى بلادِ الفِسْقِ؟ إلاَّ ضَيَاعَ الدِّينِ! وَضَعْفَ الغَيرَةِ وَالحَيَاءِ! إلا مَنْ رَحِمَ ربُّك! مَاذَا جَنَى أَرْبَابُ سِيَاحةِ الطَّربِ والغِنَاءِ والمَسَارحِ والعُرُوضِ؟ إلاَّ الذُّنوبَ والآثامَ! فأين الخوف ُمن اللهِ تَعَالى؟ صَدَقَ اللهُ العَظِيمُ: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ). أيُّها العقلاءُ: خَاسِرٌ مَنْ جَعَلَ الإجَازَةَ عُنواناً لِلسَّهرِ وإهمَالِ الصَّلواتِ. خَاسِرٌ مَنْ أَمضَى وَقْتَهُ بِأَلعَابٍ إلكتُرُونِيَّةٍ تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، خَاسِرٌ مَنْ ضَاعَ وَقْتَهُ بِمُتَابَعَةِ المَشَاهِيرِ والْمُسَنِّبِينَ الذينَ يَرْوُنَ أَحْدَاثًا وَقَصَصًا تَافِهَةً. فَنحن في زَمَنِ تَقنِياتٍ مُتَنوِّعَةٍ مُخِيفَةٍ فلا بُدَّ من مُضاعفةِ التَّوجيهِ والْمُرَاقَبَةِ؛ فَرَسُولُنا صَلَّى اللهُ عَليهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «فَكُلُّكُم رَاعٍ وَمَسئُولٌ عن رَعيَّتِهِ».
أَيُّهَا الكِرَامُ: الإجازةُ فُرَصَةٌ لأَعمَالٍ دُّنيَوِيَّةٍ مُبَاحَةٍ مِن تِجَارَةٍ َوصِنَاعَةٍ، ومِهَنٍ وحِرْفةٍ، تَنْفِي البَطَالَةَ وَالكَسَلَ وتَبني رِجالاً وعُقُولاً، فَمَا عَلَى الأَبِ إِلاَّ أَن َيَطلُبَ لابنِهِ مَا يُنَاسِبُهُ، وَيُلحِقُهُ بِعَمَلٍ يَنفَعُهُ، وَيَحفَظُهُ عَمَّا يَضُرُّهُ وَيُفسِدُهُ. قَالَ الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: النَّفْسُ إنْ لَمْ تَشغَلهَا بِالْحقِّ أَشغَلَتكَ بِالبَاطِلِ. فاللهم أصلح لنا نيَّاتِنا وذُريَّاتِنَا ياربَّ العالمينَ. ارزقنا وإيَّاهم البِرَّ والتَّقوى ومن العمل ما ترضى.
اكفنا وإيَّاهم شرَّ الفواحشِ والفتنِ ما ظهر منها وما بطن. أحفظهم عن رفقةِ السُّوء، وعملِ السُّوء ياربَّ العالمين. اللهم أصلح شبابَ الإسلامِ والمسلمينَ وَنِسَاءَهُمْ وأهدهم سُبَلَ السَّلام وجَنِّبهم الفواحشَ والآثامَ. اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشِّرك والمشركينَ، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدِّينِ. اللهم وفِّق ولاةَ أمورنا لِمَا تُحبُّ وترضى وأعنهم على البرِّ والتقوى. انْصُرْ جُنُودَنا واحفظ حُدُودَنا سدِّدْ رَمميهمْ وَثَبِّتْ أقْدَامَهُمْ. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. وَاذْكُروا اللهَ يَذْكُرْكُم وَاشْكُرُوهُ عَلى نِعَمِهِ يَزِدْكُم وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.